الجمعة، 1 مايو 2009

عصر الرينيسانس رافائيل (1483- 1520)


رافائيل (1483- 1520)
ما من شك في أنه كان ثمة فريق من عباقرة الفن خلال القرون الخمسة الماضية أعظم شأناً من رافائيل Raphael، فكان ميكلانجلو أفضل منه في رؤيته الفنية وأشد تأثيراً في النظارة، وكان ليورناردو أكثر منه عمقاً وأرهف رقّة في تحليل ما يصوّره، وكنّا مع جورجوني نتذوّق عذوبة الدنيا بأكثر مما نتذوّقها مع رافائيل، وكنا نحسّ مع تتسيانو وفيرونيزي بشموخ الحياة وروعتها بأكثر مما نحسّهما عند رافائيل. وإذا قسناه مصوّراً للشخوص فلن نراه يرقى في هذا المضمار إلى مستوى كبار الفنانين الفلورنسيين، وكذلك لن نراه يضفي على تصاويره أطياف الألوان الآسرة فعل فناني البندقية. وإذا وازنّاه بفنانين ممن هم على شاكلة بولايولو لوجدناه دون المستوى، فلقد كان لا يؤمن بدلالات الحركة والشكل كما لم يؤمن بها من قبل سلفه الأستاذ العملاق دوتشيو. أما عظمة رافائيل الحقة وما يشدنا إلى تصاويره فهي شيء آخر غير هذا كله، هو تلك الموهبة التي وهبها "موضّحاIllustration الصورة الإيضاحية، هي التصوير التوضيحي للكتب والمخطوطات، وهي أيضاً ما يضفيه ذوق الفنان وخياله على اللوحة في نقله للحقيقة المرئية إلى عين المشاهد. (م. م. م. ث). ً"41، أعني تصوّره للرؤية المثالية التي تنطوي عليها مخيّلة الفنان لا تلك التي تقع عليها عيناه في الواقع. وما نظن أحداً باراه في مخيّلته العظيمة في تصور الأشياء إدراكاً ومستوى ومدىً. ولا أعني بهذا أنه لم يكن ثمة بين الفنانين من ساووه في هذا المجال، ولكن هذا كان قاصراً على بعض صورهم لا كلها مثله. ومن بين الرسوم التي أنجزها رافائيل لتمثال أبوللو بلفدير (لوحة 50) إعجاباً به وتقديراً له لم يحفظ لنا الزمن إلا عجالة تخطيطية واحدة فحسب، مع ذلك فإننا نلمس أنه منذ وطئت قدماه أرض روما أخذت إيقاعات أبوللو بلفدير وروحه تسريان في الكثير من منجزاته المصورة العظمى. ولم يقتصر الأمر على ما تحلت به من رشاقة بل امتد إلى التعبير عن سمة جديدة غير مألوفة هى نظرة التطلع نحو عالم أبهى إشراقاً، تلك النظرة التي انفرد بها أبوللو بلفدير حيث نطالعها ثانية مجسّدة بيد رافائيل في وجوه القديسين والشعراء والفلاسفة المصوّرين على جدران قاعات قصر الفاتيكان. على أنه بالرغم من قدرة رافائيل التي لا تبارى في الاستيعاب والتمثّل إلا أنه كان حريصاً على عدم الاستعارة المباشرة من أي شكل من الأشكال.كان رافائيل في طليعة الفنانين الذين يدينون بالاتجاه الإنساني، وكانت الكلاسيكية هى ما نشأ عليه وعاش، غير أن ثمة عنصراً آخر كان له أثره هو الآخر في حياة الغرب الفكرية هو ما تنطوي عليه التوراة والإنجيل من تعاليم دينية وقصص تهذيبي شاعري، وإن كان أثره في الحياة الفكرية دون أثر الكلاسيكيات. ولعل ما فعله رافائيل من مزج بين العنصرين قد أثرى الحياة الفنية حين كسا القصص الديني توراة وإنجيلاً بثوب من الكلاسيكية، وهو ما يتجلى في "الصور التوضيحية" التي رسمها مستمدة من العهدين القديم والجديد، وأصبحنا نشعر حين نتطلع إلى تلك الصور كأننا نقرأ التوراة والإنجيل سابحين في خيال يوناني. فما أعظمها من قدرة تلك التي وهبها رافائيل على "أغرقة" الديانة المسيحية التي كانت بطبيعتها أبيّة على الأغرقة. وحسبنا شاهد عدل على ذلك لوحته "رؤيا حزقيال" الموجودة بمتحف بيتي بفلورنسا (لوحة 392)، فإذا نحن نرى "يهوه" يتجلّى لنبيّه - وكأنه الإله زيوس متجلياً للشاعر سوفوكليس - مندفعاً من جوف سحابة عاصفة يسطع وهج لهيبها، معتلياً أربعة حيوانات أحدها له وجه إنسان والثاني له وجه أسد والثالث له وجه ثور والرابع له وجه نسر. ومع احتفاظ رافائيل بما انطوت عليه المسيحية من معان نبيلة وما في الكلاسيكية من جلال وسمو، فلقد أمدّنا بمثل جمالية خالدة، فإذا هو يبدع نموذجاً يجمع بين اتجاهات عدة في تجسيد الجمال الأنثوي، جانحاً إلى طريق وسط بين الحسيات والمثاليات. وما أكثر ما حاول الفنانون المعاصرون له أن يفعلوا فعله في تصوير المرأة في صورتها المثلى غير أنهم لم يبلغوا مبلغه ولو في إحدى المحاولات، فهو دون منازع الفنان ذو العبقرية الرفيعة الفذة التي لم يتربّع على ذراها أحد سواه. كانت نشأة رافائيل في إقليم أومبريا، وتلقّى دروسه الأولى على يد بيروجينو، وإذا هو يحتذي حذوه حتى ذهب المؤرّخ فاساري إلى أن أعمال التلميذ وأستاذه ليس من اليسير التفرقة بينهما، فعلى حين كانت أعمال ميكلانجلو الأولى فريدة فذّة لا تشبه غيرها فإن أعمال رافائيل المبكرة جاءت على نمط أعمال أستاذه. وقد نزل فلورنسا في الفترة التي كانت شهرة ميكلانجلو وليوناردو آخذتين في الذيوع والانتشار، وكان رافائيل عندها في العشرين من عمره لا يدري ما يخبّئه له الدهر في ظل هذين العملاقين، كما كان يتطلع إلى أن يكون مثل أستاذه بيروجينو شهرة ونبوغاً إن لم يفقه. ولم يكن يملك حين دخل ميدان الفن في فلورنسا ذلك الحس الواقعي الذي كان يسود المدرسة الفلورنسية، وكان كل ما يملك هى القدرة على رسم الخطوط الجمالية البالغة الإتقان، فضلاً عمّا كان يتمتّع به من موهبة فريدة في استكناه ما ينطوي عليه الموضوع المصوّر من خفايا وإبرازها فنياً. وكان أول ما فعل ليبلغ ما كان يطمح إليه أن خلف وراءه ما لقنه في إقليم أومبريا متّجهاً بكل طاقاته إلى النهل من المذهب الفني الفلورنسي، وإذا هو في فترة وجيرة قد قطع شوطاً بعيداً في تطوير أسلوبه الفني، وأصبح فنان أومبريا العاطفي هو فنان المشاهد الدرامية الرائعة، وغدا هذا الشاب الذي كان يصوّر الواقع جامداً كما هو، يضفي على هذا الواقع الجامد ما يظله من مواقف إنسانية، وبهذا أصبحت شخوصه معبّرة عما يختلج في خواطرها وما يضطرم في وجداناتها، ومن ثم أصبح أسلوبه الخطّي الذي أخذه عن بيروجينو أسلوباً أكثر ملاءمة لما تنطق به التصاوير من جاذبية وما تموج به من نبضات الحياة. وحين وطئت قدماه أرض روما ما لبث هذا الفنان الذي كان شغوفاً بالجمال الوادع فحسب أن نبغ وتألق بقدرته الفذة على توزيع المجموعات في أنحاء اللوحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق