الجمعة، 1 مايو 2009

عصر الرينيسانس (أنطونيو بولا يولو مصوّراً 1429 - 1498)




ولا يمكن الخوض في الحديث عن المتعة الجمالية التي نستشعرها من تمثيل الحركة والمناظر الطبيعية دون أن نشيد بنصيب بولا يولو pollaiuolo الوافي في الأولى، ونصيب بالدو فينيتي وبولا يولو في الثانية، ثم نصيب فيروكيو أيضاً في الثانية. فعلى أيدي هؤلاء الثلاثة تحقق التقدّم الملموس بين أفراد ذلك الجيل من المصوّرين الفلورنسيين في هذين المجالين.ونحن نستطيع إدراك ما يمور في الأجسام من حركة - التي هي شيء آخر غير الانتقال من مكان إلى آخر - مثلما ندرك الأشياء المصوّرة من خلال استثارة مخيّلتنا اللمسية مع فارق واحد، هو أن اللمس يتراجع خطوة وراء إحساسات الجهود والضغوط العضلية المختلفة. مثال ذلك أن المرء حين يشاهد شخصين يتصارعان، فلا يعني هذا المشهد شيئاً بالنسبة له من حيث هو نشاط حيوي مفعم مضطرم إلا إذا تحوّلت انطباعاته البصرية على الفور إلى إدراك للجهود والضغوط يستشعرها سارية في بدنه وعضلاته، وإلا فلن يزيد أثر ما يشاهده شيئاً عما يحسّه عندما يسمع أن شخصين يتصارعان. ومع أن مباراة للمصارعة لا شك تنطوي على عناصر فنية متنوّعة، إلا أن استمتاعنا بها لا يكون استمتاعاً فنياً بحتاً، ليس فقط لاستغراقنا في متابعتنا للمباراة الرياضية بل لافتقادنا حاسّة الإثارة الفنية أمام التتابع المتلاحق لحركات الأجسام التي تجعلنا عاجزين عن إدراكها إدراكاً شاملاً وما يثيره ذلك من إرهاق لملكاتنا. أما إذا كان ثمّة سبيل لنقل هذا الإدراك بالحركة دون ما يصاحبها من إجهاد وتشويش، واستطاع الفنان أن يجعلنا نفطن إلى هذه الحركات لاهثين وراء ملاحقتها وإدراكها على الطبيعة، فإنه يمنحنا بذلك إحساساً أوفى وأوفر بالقدرة على الاستيعاب، وبمعنى آخر أنه يستخلص لنا الدلالات المادية للأشكال، وإن كانت مهمته في هذا المجال أشقّ وأصعب، ولن يتسنّى له ذلك إلا بطريقة واحدة هي التقاط الحركة المتفرّدة في قوّة تعبيرها، التي يمكن من خلالها الإحاطة بكافة الحركات التي يؤديها المصارع وتسجيلها، فلا تلبث المتعة أن تجد سبيلها إلى الرائي الذي يشعر وكأنه هو الذي يصارع بعضلات صدره وذراعيه وكفّيه وساقيه وقدميه، بل ويكاد يحسّ أَثر الجهد الخارق الذي يبذله المصارع. كل هذا يستشعره المشاهد إذا وفّق الفنان إلى استخلاص تلك الحركة المتفرّدة في قوّة تعبيرها، فيوحي من خلالها بالتسلسل المنطقي للجهود والضغوط المرئية في الأطراف والعضلات.وفي هذا المجال بالذات أدّت الروح العلمية لفناني المدرسة الطبيعية بفلورنسا أجلّ خدمة وأوفاها للفن، إذ كان من المتعذّر تحقيق هذا التسلسل المنطقي دون دراية واسعة بأصول التشريح التي لا تتسنى إلا لأولئك المفطورين على الحاسّة العلمية واتخذوا الفن حرفة، على نحو ما نرى في بولايولو وفيروكيو. وفي مجال بثّ الحياة في الموضوع المصور ثمّة لوحات أربع لبولا يولو بلغت الذروة، أولاها الصورة المطبوعة بطريقة الحفر المعروفة باسم "معركة العراة" (لوحة 198) التي تزوّدنا بمتعة لا تقف عند حد، متعة لا تقتصر على قسمات الوجوه التي تعوزها مسحة من الجمال، ولا على مكوّنات اللوحة الزخرفية المنمّقة التي لا تقل شأناً عمّا للّوحة من أثر ساحر، بل على قدرة تلك الأشكال المتصارعة بوحشية على بث الحياة في الموضوع المصوّر مباشرة وتكثيف مستوى إحساسنا بالحيوية المتدفّقة فيها فهذا محارب قد استلقى على الأرض مرهقاً منهكاً وقد انحنى خصمه فوقه فعقد كل منهما العزم على طعن مُنازله، ونرى كيف يحاول المقاتل المُستلقي تسديد قدمه بجهد خارق إلى فخذ عدوّه لإبعاده عنه، فيستدير هذا ليضغط على رأسه بقوة لا تقل عن قوة خصمه كي يقضي عليه. لقد أعطى الفنان دلالات كل هذه الجهود والضغوط العضلية حقّها حتى أصبح لا يسعنا إلا إدراكها فنخال أننا نحاكي هذه الحركات وأننا نبذل الجهود نفسها في إتيانها، وذلك كلّ‍ه دون أدنى عناء أو جهد منّا. وهذا الإيحاء الساحر الذي تُمليه اللوحة يجعلنا على حال نحسّ معها بأن ما يسري في شراييننا هو إكسير الحياة الذي يفوق الدماء التي تسري فيها دفئاً وحيوية.وثمّة تتويج آخر لدلالات الحركة نلمسه في لوحتين أخريين للفنان نفسه هما لوحة "هرقل يصرع أنطاوس" (لوحة 199) التي نشعر معها وكأن الطاقة قد انبثقت من تحت أقدامنا سارية في شرايينا ونحن نتطلّع إلى هرقل وقد تشبثت قدماه بالأرض وتورّمت فخذاه بما يعاني من ثقل ما يحمل، ثم ارتداده إلى الوراء بظهره وتطويقه العنيف بذراعيه خصمه العملاق الذي يجاهد هو الآخر بشدّة ليتملّص من بين ذراعي هرقل، فنراه يزيح بيمناه رأسه ويدفع بيسراه ذراعه. أما اللوحة الأخرى فهي لهرقل وهو يفتك بثعبان الهيدرا حيث تتجلّى دلالات الطاقة والحركة نفسها (لوحة 200).أما لوحة الشهيد القديس سباستيان (لوحة 201) فتعدّ رائعة بولايولو الخالدة، وهي التي تروي قصة ضابط روماني من الأشراف اعتنق المسيحية أيام الإمبراطور دقلديانوس الذي استنكر ذلك منه فزجره وأمره بالعودة إلى عبادة الآلهة الوثنية الرومانية، ولما رفض الاستجابة لرغبة الإمبراطور قضى برميه بالسهام. ولا يقنع بولا يولو إلا بأن يصور رماة السهام في كافة الأوضاع التي يمكن أن يتخذوها لتنفيذ مهمتهم ومن مختلف الزوايا، تارة بالمواجهة وتارة بالمجانبة، ومرة بالانحناء إلى الأمام لإعداد السهم داخل القوس، ومرة أخرى بالانتصاب لتصويب السهم إلى القديس الشهيد، قاصداً بذلك تسجيل كافة الحركات التي يأتيها رامي السهم فإذا هو يُضفيها على ستة من الرماة وكأننا نشهد شريطاً سينمائياً. وتكشف القوة والواقعية والعضلات المفتولة والإيحاء بالأحجام عن مدى انجذاب الفنان أثناء تصويره إلى فن النحت الأثير لديه. ولا تقل هذه اللوحة عن سابقاتها امتيازاً، كما أنها لا تعبر عن تمثيل الحركة فحسب بل تعبّر بالمثل عن القيم اللمسية وفتوّة الجسد البشري.وخلال عودة هرقل إلى وطنه تصحبه عروسه ديانيرا إلى شاطئ إيفينوس المصطخب الأمواج وجده مغموراً على غير العادة بمياه الأمطار الشتوية التي كانت تثير فيه دوامات عديدة يصعب معها عبوره. وعندها اقترب منه القنطور نيسوس الجبّار الذي كان خبيراً بأماكن العبور الضحلة عارضاً أن يحمل ديانيرا إلى الشاطئ الآخر، فعهد هرقل إلى القنطور بالعذراء التي عراها الشحوب وحلّت بها الرعدة هلعاً وخوفاً من النهر ومن القنطور، وطوّح هرقل بقوسه وهراوته إلى الضفة الأخرى وقذف بنفسه إلى الماء دون تردد. وحين وقف على الضفة الأخرى التقط قوسه وسمع صوت زوجته تستغيث، فأدرك أن نيسوس يتأهب لخيانة الأمانة التي يحملها، فأطلق بيده سهماً اخترق ظهر القنطور ونفذ سنّه المعقوف من صدره. وقد وقع اختيار بولا يولو على لحظة التوتر الدرامي والحركي القصوى - وأعني بذلك أنه بوعيه الثاقب قد التقط الحركة المتفرّدة في قوة تعبيرها التي نستخلص منها الدلالة المادية والجوهرية للموضوع المصور - ليسجلها في لوحته البديعة التي تحتفظ بها جامعة ييل (لوحة 202) حين يصوّب هرقل سهمه صوب القنطور وهو يجاهد للاحتفاظ بسبيّته بين ذراعيه بينما تحاول هي التخلّص من قبضته، تفصل بينهما مياه النهر التي تصطخب بالحركة والتدفّق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق