الجمعة، 1 مايو 2009

برونزينو 1503-1572




برونزينو 1503-1572
وفي الفترة ما بين ابتكار كوريجيو لنموذج الجمال المطلق وعودته إلى الظهور خلال القرن الثامن عشر مرّت فينوس بنماذج أُخرى يأتي في مقدّمتها ما يُدعى بنموذج النزعة التكلّفية Mannerism الأسلوب التكلّفي هو ما يطرأ على الأسلوب الفني من تأنق أو تكلّف أو غلوّ، ويُعزى إلى التصوير الإيطالي خلال القرن السادس عشر، واستغرق الفترة ما بين النهضة الشمّاء ونشأة أسلوب الباروك. وقام أساساً على الإعجاب بميكلانجلو وما تلى ذلك من إفراط في محاكاة تكويناته الفنية ومن تحريف معبّر مقصود لأشكاله. وأهم خواص الأسلوب التكلّفي المبالغة في إظهار القوى العضلية أو إطالة أشكال الشخوص، أو إضفاء التوتر على الحركات والإيماءات أو ازدحام التكوين الفني أو المغالاة في بعض النسب والمقاييس، وما يترتب على ذلك كله من استخدام للألوان الصارخة. (م.م.م.ث). ، وهي تعبير عن مدرسة كثيراً ما يساء فهمه وإن ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمثل أعلى للجمال الأنثوي يتّسم بالإفراط غير الواقعي في طول أعضاء الجسد وبرشاقة وأناقة بزّتا النماذج التقليدية المعهودة0 وتكمن المفارقة في أن ميكلانجلو الذي لم يستهوه جسد المرأة كان له تأثير واضح في تشكيل صورة فينوس، إِذ هيمنت ابتكاراته التشكيلية على معاصريه فإذا هي تتجلّى في أشكال لم يكن يتوقعها أحد، مثال ذلك صورة فينوس في لوحة "رمز الهوى" للفنان برونزينو Bronzino المحفوظة بالناشونال جاليري في لندن (لوحة 1، 2) التي غدت قمة الأناقة في عهد آل مديتشي برشاقة جسدها الصقيل ووضعها المتأوّد ومجونها المكبوح. وكان ميكلانجلو أول من فتح الباب على مصراعيه لهذا التطور الذي أبدع مثل هذه الوضعات حين ابتكر وضعة تمثال "الليل"وجعلها أساساً لصورة ليدا، فلقد ظل تمثالا "الليل" و"الفجر" الأنثويان بمصلّى مديتشي النبع الذي يستقي منه المصوّرون صور العاريات على مدى نصف قرن.
وليس ثمّة تفسير متّفق عليه من الجميع للوحة رمز الهوى أو (فينوس وكيوييد والحماقة والزمن) حيث نميّز كيوبيد بجناحيه وكنانة سهامه، يحتضن أمّه فينوس مقبّلاً ثغرها، كما نتعرّف على الزمن من الساعة الزجاجية. وتبقى بعد ذلك أربعة شخوص: فنرى في أعلى اليسار امرأة قد استخفى وجهها وراء قناع وهي تمسك بيدها حافّة ستارة زرقاء وتحتها شخصية لا ندري إن كانت لذكر أم لأنثى تشدّ شعرها بكلتي يديها. وإلى اليمين صبيّ صغير يقبض على باقة زهور بكفّه ويحيط برسغه الأيسر خلخال مجلجل، ويبدو أنه قد داس على الشوك فانغرزت إبرة في كعبه اليمنى. ومن ورائه وجه صبيّة تظهر عجيزتها على صورة عجيزة حيوان ذي فروة وذيل تغطّيه الحراشف، وتمسك بإحدى يديها خليّة نحل بينما تمسك بيدها الأُخرى ذنباً مسنوناً كلسان الأفعى. كما نشهد زوجاً من الحمام الأبيض إلى اليسار من أمامية الصورة، وتقبض فينوس بيدها اليسرى على كرة ذهبية، وقد أُلقي بقناعين لرجل وامرأة إلى اليمين من أمامية الصورة. ويصف الفنان ومؤرّخ الفن فاساري هذه اللوحة بأنها: "صورة لا يعبّر عن مقاصدها وصف تتيه بجمالها سواء في تكوينها الفني الشديد الإتقان أو في التباين غير المألوف بين درجات ألوانها، بين لون بشرة الأجساد الشاحبة والألوان الأخرى المتألقة تألّق المعدن." وعلى حين يذهب بانوفسكي إلى تفسير هذه الصورة الرمزية بأنها الزمن يكشف عن أن المتعة الحسيّة تفضي إلى اليأس والغيرة، يذهب ليفي Leveyإلى أنَّ هذه الصورة تمثّل فينوس وهي تجرّد كيوبيد من سلاحه.

عصر الرينيسانس رافائيل (1483- 1520)


رافائيل (1483- 1520)
ما من شك في أنه كان ثمة فريق من عباقرة الفن خلال القرون الخمسة الماضية أعظم شأناً من رافائيل Raphael، فكان ميكلانجلو أفضل منه في رؤيته الفنية وأشد تأثيراً في النظارة، وكان ليورناردو أكثر منه عمقاً وأرهف رقّة في تحليل ما يصوّره، وكنّا مع جورجوني نتذوّق عذوبة الدنيا بأكثر مما نتذوّقها مع رافائيل، وكنا نحسّ مع تتسيانو وفيرونيزي بشموخ الحياة وروعتها بأكثر مما نحسّهما عند رافائيل. وإذا قسناه مصوّراً للشخوص فلن نراه يرقى في هذا المضمار إلى مستوى كبار الفنانين الفلورنسيين، وكذلك لن نراه يضفي على تصاويره أطياف الألوان الآسرة فعل فناني البندقية. وإذا وازنّاه بفنانين ممن هم على شاكلة بولايولو لوجدناه دون المستوى، فلقد كان لا يؤمن بدلالات الحركة والشكل كما لم يؤمن بها من قبل سلفه الأستاذ العملاق دوتشيو. أما عظمة رافائيل الحقة وما يشدنا إلى تصاويره فهي شيء آخر غير هذا كله، هو تلك الموهبة التي وهبها "موضّحاIllustration الصورة الإيضاحية، هي التصوير التوضيحي للكتب والمخطوطات، وهي أيضاً ما يضفيه ذوق الفنان وخياله على اللوحة في نقله للحقيقة المرئية إلى عين المشاهد. (م. م. م. ث). ً"41، أعني تصوّره للرؤية المثالية التي تنطوي عليها مخيّلة الفنان لا تلك التي تقع عليها عيناه في الواقع. وما نظن أحداً باراه في مخيّلته العظيمة في تصور الأشياء إدراكاً ومستوى ومدىً. ولا أعني بهذا أنه لم يكن ثمة بين الفنانين من ساووه في هذا المجال، ولكن هذا كان قاصراً على بعض صورهم لا كلها مثله. ومن بين الرسوم التي أنجزها رافائيل لتمثال أبوللو بلفدير (لوحة 50) إعجاباً به وتقديراً له لم يحفظ لنا الزمن إلا عجالة تخطيطية واحدة فحسب، مع ذلك فإننا نلمس أنه منذ وطئت قدماه أرض روما أخذت إيقاعات أبوللو بلفدير وروحه تسريان في الكثير من منجزاته المصورة العظمى. ولم يقتصر الأمر على ما تحلت به من رشاقة بل امتد إلى التعبير عن سمة جديدة غير مألوفة هى نظرة التطلع نحو عالم أبهى إشراقاً، تلك النظرة التي انفرد بها أبوللو بلفدير حيث نطالعها ثانية مجسّدة بيد رافائيل في وجوه القديسين والشعراء والفلاسفة المصوّرين على جدران قاعات قصر الفاتيكان. على أنه بالرغم من قدرة رافائيل التي لا تبارى في الاستيعاب والتمثّل إلا أنه كان حريصاً على عدم الاستعارة المباشرة من أي شكل من الأشكال.كان رافائيل في طليعة الفنانين الذين يدينون بالاتجاه الإنساني، وكانت الكلاسيكية هى ما نشأ عليه وعاش، غير أن ثمة عنصراً آخر كان له أثره هو الآخر في حياة الغرب الفكرية هو ما تنطوي عليه التوراة والإنجيل من تعاليم دينية وقصص تهذيبي شاعري، وإن كان أثره في الحياة الفكرية دون أثر الكلاسيكيات. ولعل ما فعله رافائيل من مزج بين العنصرين قد أثرى الحياة الفنية حين كسا القصص الديني توراة وإنجيلاً بثوب من الكلاسيكية، وهو ما يتجلى في "الصور التوضيحية" التي رسمها مستمدة من العهدين القديم والجديد، وأصبحنا نشعر حين نتطلع إلى تلك الصور كأننا نقرأ التوراة والإنجيل سابحين في خيال يوناني. فما أعظمها من قدرة تلك التي وهبها رافائيل على "أغرقة" الديانة المسيحية التي كانت بطبيعتها أبيّة على الأغرقة. وحسبنا شاهد عدل على ذلك لوحته "رؤيا حزقيال" الموجودة بمتحف بيتي بفلورنسا (لوحة 392)، فإذا نحن نرى "يهوه" يتجلّى لنبيّه - وكأنه الإله زيوس متجلياً للشاعر سوفوكليس - مندفعاً من جوف سحابة عاصفة يسطع وهج لهيبها، معتلياً أربعة حيوانات أحدها له وجه إنسان والثاني له وجه أسد والثالث له وجه ثور والرابع له وجه نسر. ومع احتفاظ رافائيل بما انطوت عليه المسيحية من معان نبيلة وما في الكلاسيكية من جلال وسمو، فلقد أمدّنا بمثل جمالية خالدة، فإذا هو يبدع نموذجاً يجمع بين اتجاهات عدة في تجسيد الجمال الأنثوي، جانحاً إلى طريق وسط بين الحسيات والمثاليات. وما أكثر ما حاول الفنانون المعاصرون له أن يفعلوا فعله في تصوير المرأة في صورتها المثلى غير أنهم لم يبلغوا مبلغه ولو في إحدى المحاولات، فهو دون منازع الفنان ذو العبقرية الرفيعة الفذة التي لم يتربّع على ذراها أحد سواه. كانت نشأة رافائيل في إقليم أومبريا، وتلقّى دروسه الأولى على يد بيروجينو، وإذا هو يحتذي حذوه حتى ذهب المؤرّخ فاساري إلى أن أعمال التلميذ وأستاذه ليس من اليسير التفرقة بينهما، فعلى حين كانت أعمال ميكلانجلو الأولى فريدة فذّة لا تشبه غيرها فإن أعمال رافائيل المبكرة جاءت على نمط أعمال أستاذه. وقد نزل فلورنسا في الفترة التي كانت شهرة ميكلانجلو وليوناردو آخذتين في الذيوع والانتشار، وكان رافائيل عندها في العشرين من عمره لا يدري ما يخبّئه له الدهر في ظل هذين العملاقين، كما كان يتطلع إلى أن يكون مثل أستاذه بيروجينو شهرة ونبوغاً إن لم يفقه. ولم يكن يملك حين دخل ميدان الفن في فلورنسا ذلك الحس الواقعي الذي كان يسود المدرسة الفلورنسية، وكان كل ما يملك هى القدرة على رسم الخطوط الجمالية البالغة الإتقان، فضلاً عمّا كان يتمتّع به من موهبة فريدة في استكناه ما ينطوي عليه الموضوع المصوّر من خفايا وإبرازها فنياً. وكان أول ما فعل ليبلغ ما كان يطمح إليه أن خلف وراءه ما لقنه في إقليم أومبريا متّجهاً بكل طاقاته إلى النهل من المذهب الفني الفلورنسي، وإذا هو في فترة وجيرة قد قطع شوطاً بعيداً في تطوير أسلوبه الفني، وأصبح فنان أومبريا العاطفي هو فنان المشاهد الدرامية الرائعة، وغدا هذا الشاب الذي كان يصوّر الواقع جامداً كما هو، يضفي على هذا الواقع الجامد ما يظله من مواقف إنسانية، وبهذا أصبحت شخوصه معبّرة عما يختلج في خواطرها وما يضطرم في وجداناتها، ومن ثم أصبح أسلوبه الخطّي الذي أخذه عن بيروجينو أسلوباً أكثر ملاءمة لما تنطق به التصاوير من جاذبية وما تموج به من نبضات الحياة. وحين وطئت قدماه أرض روما ما لبث هذا الفنان الذي كان شغوفاً بالجمال الوادع فحسب أن نبغ وتألق بقدرته الفذة على توزيع المجموعات في أنحاء اللوحة.

عصر الرينيسانس (فرا فيليبوليبي 1406 - 1469

فرا فيليبوليبي 1406 - 1469
وقد أتاح لنا فيليبوليبي Filippo Lippi بما خلّفه من فيض غزير من التصاوير التي بقي أكثرها في حالة سليمة ما يجعلنا أكثر قدرة على تقييمه وتقديره فناناً له مكانته وجدارته، فإذا كان الافتتان بسحرها الجذاب كافياً كي يخلق فناناً عظيماً فلنا أن نعدّ فيليبو فناناً عظيماً بل أعظم فنان فلورنسي قبل ليوناردو، فأنّى لنا أن نجد وجوهاً أشدّ ملاحة وإغراء من عذراواته وخاصة لوحة العذراء والطفل والمَلَك التي يحتفظ بها متحف أوفتزي (لوحة 1) هي ولوحة العذراء والطفل (لوحة 2) التي تثير فينا أنبل العواطف وأسماها؟ وأين نجد في التصوير الفلورنسي ما هو أشدّ جاذبية من مرح أطفاله وأكثر شاعرية من مناظره الطبيعية وأرق سحراً من ألوانه؟ ويتوّج هذا كله التعبير عن الصحة المتدفّقة وعن مراحل العمر التي يمرّ بها الإنسان، مُستلهماً معينه الفيّاض مما يتمتع به من خفّة الظلّ والروح (لوحة 3). ومع ذلك فكل هذه الصفات المتميّزة تشكّل رسّاماً فحسب لا مصوّراً من الطراز الأول، وهذا في الحق ما كان عليه فيليبوليبي. أما إذا كان قد تجاوز هذه المرتبة أحياناً فمردّ ذلك إلى تأثير مازاتشيو عليه أكثر مما هو إلى مواهبه الشخصية، ذلك أنه لم يكن يمتلك الحس العميق بالدلالة المادية أو الروحية الذي ينبغي أن يمتلك ناصيته الفنان الحق. وحين كان يصوّر مترسّماً خُطى مازاتشيو كان يعطي للقيمة اللمسية حقّها أحياناً كما هي الحال في لوحة العذراء بمتحف أوفتزي، لكنه كان في أغلب الأحيان يداري عجزه عن التعبير عنها بتصوير الأردية ذات الخطوط الرشيقة والأطواء الدسمة. من أجل هذا كانت وجهة فيليبو الفنية هي التعبير عما هو رقيق مبهج من مشاعر الحياة اليومية العادية التي تفيض على النفس بهجة وبشراً لا الالتزام بإعادة الخلق الفني الباهر، ومن ثم كان مكانه الحق مع مصوّري حياة الناس اليومية Genre. وعلى حين اهتم هو بالتعبير عن وجدانهم اهتم غيره من أمثال بينوتزو جوتزولي بالتعبير عن أجسادهم، وكلاهما ليبي وجوتزولي لا يهدف إلى غير التمثيل التشكيلي Representation بأي ثمن.

(فرا فيليبوليبي 1406 - 1469

فرا فيليبوليبي 1406 - 1469
وقد أتاح لنا فيليبوليبي Filippo Lippi بما خلّفه من فيض غزير من التصاوير التي بقي أكثرها في حالة سليمة ما يجعلنا أكثر قدرة على تقييمه وتقديره فناناً له مكانته وجدارته، فإذا كان الافتتان بسحرها الجذاب كافياً كي يخلق فناناً عظيماً فلنا أن نعدّ فيليبو فناناً عظيماً بل أعظم فنان فلورنسي قبل ليوناردو، فأنّى لنا أن نجد وجوهاً أشدّ ملاحة وإغراء من عذراواته وخاصة لوحة العذراء والطفل والمَلَك التي يحتفظ بها متحف أوفتزي (لوحة 190) هي ولوحة العذراء والطفل (لوحة 191) التي تثير فينا أنبل العواطف وأسماها؟ وأين نجد في التصوير الفلورنسي ما هو أشدّ جاذبية من مرح أطفاله وأكثر شاعرية من مناظره الطبيعية وأرق سحراً من ألوانه؟ ويتوّج هذا كله التعبير عن الصحة المتدفّقة وعن مراحل العمر التي يمرّ بها الإنسان، مُستلهماً معينه الفيّاض مما يتمتع به من خفّة الظلّ والروح (لوحة 192). ومع ذلك فكل هذه الصفات المتميّزة تشكّل رسّاماً فحسب لا مصوّراً من الطراز الأول، وهذا في الحق ما كان عليه فيليبوليبي. أما إذا كان قد تجاوز هذه المرتبة أحياناً فمردّ ذلك إلى تأثير مازاتشيو عليه أكثر مما هو إلى مواهبه الشخصية، ذلك أنه لم يكن يمتلك الحس العميق بالدلالة المادية أو الروحية الذي ينبغي أن يمتلك ناصيته الفنان الحق. وحين كان يصوّر مترسّماً خُطى مازاتشيو كان يعطي للقيمة اللمسية حقّها أحياناً كما هي الحال في لوحة العذراء بمتحف أوفتزي، لكنه كان في أغلب الأحيان يداري عجزه عن التعبير عنها بتصوير الأردية ذات الخطوط الرشيقة والأطواء الدسمة. من أجل هذا كانت وجهة فيليبو الفنية هي التعبير عما هو رقيق مبهج من مشاعر الحياة اليومية العادية التي تفيض على النفس بهجة وبشراً لا الالتزام بإعادة الخلق الفني الباهر، ومن ثم كان مكانه الحق مع مصوّري حياة الناس اليومية Genre. وعلى حين اهتم هو بالتعبير عن وجدانهم اهتم غيره من أمثال بينوتزو جوتزولي بالتعبير عن أجسادهم، وكلاهما ليبي وجوتزولي لا يهدف إلى غير التمثيل التشكيلي Representation بأي ثمن.
وقد أتاح لنا فيليبوليبي Filippo Lippi بما خلّفه من فيض غزير من التصاوير التي بقي أكثرها في حالة سليمة ما يجعلنا أكثر قدرة على تقييمه وتقديره فناناً له مكانته وجدارته، فإذا كان الافتتان بسحرها الجذاب كافياً كي يخلق فناناً عظيماً فلنا أن نعدّ فيليبو فناناً عظيماً بل أعظم فنان فلورنسي قبل ليوناردو، فأنّى لنا أن نجد وجوهاً أشدّ ملاحة وإغراء من عذراواته وخاصة لوحة العذراء والطفل والمَلَك التي يحتفظ بها متحف أوفتزي (لوحة 190) هي ولوحة العذراء والطفل (لوحة 191) التي تثير فينا أنبل العواطف وأسماها؟ وأين نجد في التصوير الفلورنسي ما هو أشدّ جاذبية من مرح أطفاله وأكثر شاعرية من مناظره الطبيعية وأرق سحراً من ألوانه؟ ويتوّج هذا كله التعبير عن الصحة المتدفّقة وعن مراحل العمر التي يمرّ بها الإنسان، مُستلهماً معينه الفيّاض مما يتمتع به من خفّة الظلّ والروح (لوحة 192). ومع ذلك فكل هذه الصفات المتميّزة تشكّل رسّاماً فحسب لا مصوّراً من الطراز الأول، وهذا في الحق ما كان عليه فيليبوليبي. أما إذا كان قد تجاوز هذه المرتبة أحياناً فمردّ ذلك إلى تأثير مازاتشيو عليه أكثر مما هو إلى مواهبه الشخصية، ذلك أنه لم يكن يمتلك الحس العميق بالدلالة المادية أو الروحية الذي ينبغي أن يمتلك ناصيته الفنان الحق. وحين كان يصوّر مترسّماً خُطى مازاتشيو كان يعطي للقيمة اللمسية حقّها أحياناً كما هي الحال في لوحة العذراء بمتحف أوفتزي، لكنه كان في أغلب الأحيان يداري عجزه عن التعبير عنها بتصوير الأردية ذات الخطوط الرشيقة والأطواء الدسمة. من أجل هذا كانت وجهة فيليبو الفنية هي التعبير عما هو رقيق مبهج من مشاعر الحياة اليومية العادية التي تفيض على النفس بهجة وبشراً لا الالتزام بإعادة الخلق الفني الباهر، ومن ثم كان مكانه الحق مع مصوّري حياة الناس اليومية Genre. وعلى حين اهتم هو بالتعبير عن وجدانهم اهتم غيره من أمثال بينوتزو جوتزولي بالتعبير عن أجسادهم، وكلاهما ليبي وجوتزولي لا يهدف إلى غير التمثيل التشكيلي Representation بأي ثمن.

عصر الرينيسانس (أنطونيو بولا يولو مصوّراً 1429 - 1498)




ولا يمكن الخوض في الحديث عن المتعة الجمالية التي نستشعرها من تمثيل الحركة والمناظر الطبيعية دون أن نشيد بنصيب بولا يولو pollaiuolo الوافي في الأولى، ونصيب بالدو فينيتي وبولا يولو في الثانية، ثم نصيب فيروكيو أيضاً في الثانية. فعلى أيدي هؤلاء الثلاثة تحقق التقدّم الملموس بين أفراد ذلك الجيل من المصوّرين الفلورنسيين في هذين المجالين.ونحن نستطيع إدراك ما يمور في الأجسام من حركة - التي هي شيء آخر غير الانتقال من مكان إلى آخر - مثلما ندرك الأشياء المصوّرة من خلال استثارة مخيّلتنا اللمسية مع فارق واحد، هو أن اللمس يتراجع خطوة وراء إحساسات الجهود والضغوط العضلية المختلفة. مثال ذلك أن المرء حين يشاهد شخصين يتصارعان، فلا يعني هذا المشهد شيئاً بالنسبة له من حيث هو نشاط حيوي مفعم مضطرم إلا إذا تحوّلت انطباعاته البصرية على الفور إلى إدراك للجهود والضغوط يستشعرها سارية في بدنه وعضلاته، وإلا فلن يزيد أثر ما يشاهده شيئاً عما يحسّه عندما يسمع أن شخصين يتصارعان. ومع أن مباراة للمصارعة لا شك تنطوي على عناصر فنية متنوّعة، إلا أن استمتاعنا بها لا يكون استمتاعاً فنياً بحتاً، ليس فقط لاستغراقنا في متابعتنا للمباراة الرياضية بل لافتقادنا حاسّة الإثارة الفنية أمام التتابع المتلاحق لحركات الأجسام التي تجعلنا عاجزين عن إدراكها إدراكاً شاملاً وما يثيره ذلك من إرهاق لملكاتنا. أما إذا كان ثمّة سبيل لنقل هذا الإدراك بالحركة دون ما يصاحبها من إجهاد وتشويش، واستطاع الفنان أن يجعلنا نفطن إلى هذه الحركات لاهثين وراء ملاحقتها وإدراكها على الطبيعة، فإنه يمنحنا بذلك إحساساً أوفى وأوفر بالقدرة على الاستيعاب، وبمعنى آخر أنه يستخلص لنا الدلالات المادية للأشكال، وإن كانت مهمته في هذا المجال أشقّ وأصعب، ولن يتسنّى له ذلك إلا بطريقة واحدة هي التقاط الحركة المتفرّدة في قوّة تعبيرها، التي يمكن من خلالها الإحاطة بكافة الحركات التي يؤديها المصارع وتسجيلها، فلا تلبث المتعة أن تجد سبيلها إلى الرائي الذي يشعر وكأنه هو الذي يصارع بعضلات صدره وذراعيه وكفّيه وساقيه وقدميه، بل ويكاد يحسّ أَثر الجهد الخارق الذي يبذله المصارع. كل هذا يستشعره المشاهد إذا وفّق الفنان إلى استخلاص تلك الحركة المتفرّدة في قوّة تعبيرها، فيوحي من خلالها بالتسلسل المنطقي للجهود والضغوط المرئية في الأطراف والعضلات.وفي هذا المجال بالذات أدّت الروح العلمية لفناني المدرسة الطبيعية بفلورنسا أجلّ خدمة وأوفاها للفن، إذ كان من المتعذّر تحقيق هذا التسلسل المنطقي دون دراية واسعة بأصول التشريح التي لا تتسنى إلا لأولئك المفطورين على الحاسّة العلمية واتخذوا الفن حرفة، على نحو ما نرى في بولايولو وفيروكيو. وفي مجال بثّ الحياة في الموضوع المصور ثمّة لوحات أربع لبولا يولو بلغت الذروة، أولاها الصورة المطبوعة بطريقة الحفر المعروفة باسم "معركة العراة" (لوحة 198) التي تزوّدنا بمتعة لا تقف عند حد، متعة لا تقتصر على قسمات الوجوه التي تعوزها مسحة من الجمال، ولا على مكوّنات اللوحة الزخرفية المنمّقة التي لا تقل شأناً عمّا للّوحة من أثر ساحر، بل على قدرة تلك الأشكال المتصارعة بوحشية على بث الحياة في الموضوع المصوّر مباشرة وتكثيف مستوى إحساسنا بالحيوية المتدفّقة فيها فهذا محارب قد استلقى على الأرض مرهقاً منهكاً وقد انحنى خصمه فوقه فعقد كل منهما العزم على طعن مُنازله، ونرى كيف يحاول المقاتل المُستلقي تسديد قدمه بجهد خارق إلى فخذ عدوّه لإبعاده عنه، فيستدير هذا ليضغط على رأسه بقوة لا تقل عن قوة خصمه كي يقضي عليه. لقد أعطى الفنان دلالات كل هذه الجهود والضغوط العضلية حقّها حتى أصبح لا يسعنا إلا إدراكها فنخال أننا نحاكي هذه الحركات وأننا نبذل الجهود نفسها في إتيانها، وذلك كلّ‍ه دون أدنى عناء أو جهد منّا. وهذا الإيحاء الساحر الذي تُمليه اللوحة يجعلنا على حال نحسّ معها بأن ما يسري في شراييننا هو إكسير الحياة الذي يفوق الدماء التي تسري فيها دفئاً وحيوية.وثمّة تتويج آخر لدلالات الحركة نلمسه في لوحتين أخريين للفنان نفسه هما لوحة "هرقل يصرع أنطاوس" (لوحة 199) التي نشعر معها وكأن الطاقة قد انبثقت من تحت أقدامنا سارية في شرايينا ونحن نتطلّع إلى هرقل وقد تشبثت قدماه بالأرض وتورّمت فخذاه بما يعاني من ثقل ما يحمل، ثم ارتداده إلى الوراء بظهره وتطويقه العنيف بذراعيه خصمه العملاق الذي يجاهد هو الآخر بشدّة ليتملّص من بين ذراعي هرقل، فنراه يزيح بيمناه رأسه ويدفع بيسراه ذراعه. أما اللوحة الأخرى فهي لهرقل وهو يفتك بثعبان الهيدرا حيث تتجلّى دلالات الطاقة والحركة نفسها (لوحة 200).أما لوحة الشهيد القديس سباستيان (لوحة 201) فتعدّ رائعة بولايولو الخالدة، وهي التي تروي قصة ضابط روماني من الأشراف اعتنق المسيحية أيام الإمبراطور دقلديانوس الذي استنكر ذلك منه فزجره وأمره بالعودة إلى عبادة الآلهة الوثنية الرومانية، ولما رفض الاستجابة لرغبة الإمبراطور قضى برميه بالسهام. ولا يقنع بولا يولو إلا بأن يصور رماة السهام في كافة الأوضاع التي يمكن أن يتخذوها لتنفيذ مهمتهم ومن مختلف الزوايا، تارة بالمواجهة وتارة بالمجانبة، ومرة بالانحناء إلى الأمام لإعداد السهم داخل القوس، ومرة أخرى بالانتصاب لتصويب السهم إلى القديس الشهيد، قاصداً بذلك تسجيل كافة الحركات التي يأتيها رامي السهم فإذا هو يُضفيها على ستة من الرماة وكأننا نشهد شريطاً سينمائياً. وتكشف القوة والواقعية والعضلات المفتولة والإيحاء بالأحجام عن مدى انجذاب الفنان أثناء تصويره إلى فن النحت الأثير لديه. ولا تقل هذه اللوحة عن سابقاتها امتيازاً، كما أنها لا تعبر عن تمثيل الحركة فحسب بل تعبّر بالمثل عن القيم اللمسية وفتوّة الجسد البشري.وخلال عودة هرقل إلى وطنه تصحبه عروسه ديانيرا إلى شاطئ إيفينوس المصطخب الأمواج وجده مغموراً على غير العادة بمياه الأمطار الشتوية التي كانت تثير فيه دوامات عديدة يصعب معها عبوره. وعندها اقترب منه القنطور نيسوس الجبّار الذي كان خبيراً بأماكن العبور الضحلة عارضاً أن يحمل ديانيرا إلى الشاطئ الآخر، فعهد هرقل إلى القنطور بالعذراء التي عراها الشحوب وحلّت بها الرعدة هلعاً وخوفاً من النهر ومن القنطور، وطوّح هرقل بقوسه وهراوته إلى الضفة الأخرى وقذف بنفسه إلى الماء دون تردد. وحين وقف على الضفة الأخرى التقط قوسه وسمع صوت زوجته تستغيث، فأدرك أن نيسوس يتأهب لخيانة الأمانة التي يحملها، فأطلق بيده سهماً اخترق ظهر القنطور ونفذ سنّه المعقوف من صدره. وقد وقع اختيار بولا يولو على لحظة التوتر الدرامي والحركي القصوى - وأعني بذلك أنه بوعيه الثاقب قد التقط الحركة المتفرّدة في قوة تعبيرها التي نستخلص منها الدلالة المادية والجوهرية للموضوع المصور - ليسجلها في لوحته البديعة التي تحتفظ بها جامعة ييل (لوحة 202) حين يصوّب هرقل سهمه صوب القنطور وهو يجاهد للاحتفاظ بسبيّته بين ذراعيه بينما تحاول هي التخلّص من قبضته، تفصل بينهما مياه النهر التي تصطخب بالحركة والتدفّق.

عصر الرينيسانس (جوتو 1266-1337)

جوتو 1266-1337
بدأت حقبة جديدة كل الجدّة في ميدان الفن بظهور الفنان جوتو الذي لم يكن ينتقص من شأنه الرفيع ما يُشاع من أنه كان مديناً في أسلوبه التصويري إلى الفنانين البيزنطيين، وفي أهدافه إلى محاكاته أعمال كبار مثّالي كاتدرائيات الشمال الأوربي. وتعدّ الصور الجصّية الجدارية "الفريسكو" أشهر إنجازات جوتو، وقد سُمّيت "فريسكو" لأنها تُرسم فوق الحائط بينما لا يزال الجصّ أو الملاط طريّاً طازجاً. ولقد كان المصورون أشد بطئاً من المثّالين الإيطاليين في اللحاق بالروح الجديدة للفنانين القوطيين والتجاوب معها، فلا يغيب عن البال أن مهمّة المثّال الذي يهدف إلى تصوير الطبيعة أيسر بكثير من مهمة المصوّر صاحب الهدف نفسه، فالمثّال في غير حاجة إلى الإيحاء العميق عن طريق التضاؤل النسبي(32) Foreshortening التضاؤل النسبي هو إيحاء بالعمق الفراغي وبالبُعد الثالث في سطح اللوحة نتيجة ضمور أبعاد الأشياء وأحجامها شيئاً فشيئاً كلما أَمعنّا عُمقا، وهو خدعة بصري تُضفي لوناً من ألوان الإيهام بامتداد ذلك العمق. (م.م.م.ث). أو التجسيم(33) Modelling التجسيم هو الإيحاء بكثافة الأجسام وشغلها لجزء من الفراغ الثلاثي الأبعاد فوق مسطّح ذي بُعدين (م.م.م.ث). باستخدام الضوء والظل، إذ ينتصب تمثاله بالفعل في فراغ حقيقي وضوء حقيقي. وكانت بعض المدن الإيطالية كالبندقية على سبيل المثال ما تزال على اتصال وثيق بالإمبراطورية البيزنطية، كما ظل الحرفيون الإيطاليون يتطلعون إلى القسطنطينية مصدراً للإشعاع يستلهمونه وبه يهتدون، فحتى القرن الثالث عشر كانت الكنائس الإيطالية ما تزال مزيّنة بلوحات الفسيفساء الرصينة على غرار النمط المتأغرق. وقد يتبادر إلى الذهن خطأ أن هذا الولاء للطراز اليوناني الشرقي المحافظ قد وقف حجر عثرة في سبيل التغيير والتطور الذي ما كاد يطل في خاتمة القرن الثالث عشر حتى لعب الفن البيزنطي نفسه دوراً جعل الفن الإيطالي لا يلحق فحسب بمنجزات كاتدرائيات الشمال الأوربي بل أن يضرم ثورة كبرى في فن التصوير بأسره، مُتيحاً للإيطاليين فرصة عبور الحاجز الذي يفصل النحت عن التصوير. وعلى الرغم مما يتّسم به الفن البيزنطي من جمود فلا ننسى أنه هو الذي صان مكتشفات المصوّرين الإغريق، وكان لا معدى عن ظهور عبقرية تخرج بالفن البيزنطي عن جموده وتنطلق به إلى عالم جديد، وكان أن ظهرت هذه العبقرية في شخص المصوّر الفلورنسي جوتو بوندوني Giotto الذي طبقت شهرته الآفاق وتباهى به أهل فلورنسا وأشادوا بذكره ووسّعوا رقعة ذيوع صيته وراحوا يؤلفون القصص والحكايات عن عبقريته ومهارته وذكائه. وكان هذا في حد ذاته أمراً جديداً غير مألوف، فلم يكن الناس خلال العصور الوسطى يكترثون بحفظ أسماء فنانيهم وكانوا يذكرونهم كما يذكر أحدنا خيّاطه أو صانع أثاثه، وكذا الفنانون أنفسهم لم يعنوا حتى بتوقيع أسمائهم فوق أعمالهم. وإذا كنا لا نعي أسماء العباقرة الذين أنجزوا منحوتات كاتدرائيات شارتر ونورمبرج وغيرهما فهم دون شك قد ظفروا أثناء حياتهم بما يستحقون من تقدير هم به جديرون، لكنهم رغبوا عن هذا التقدير الذي تبرعوا به من جانبهم للكاتدرائية التي عملوا بها طمعاً في مثوبة الله. ومنذ ظهور جوتو بدأ عهد جديد في تاريخ الفن في إيطاليا أولاً ثم في غيرها من بقاع أوربا، إذ أصبح تاريخ الفن هو تاريخ عظام الفنانين.وقيل إن جوتو قد نشأ راعياً فقيراً اعتاد الرسم والنقش فوق ما يصادفه من الصخور والأحجار المستوية الأسطح المتناثرة بين الحقول. ومهما كانت طبيعة نشأته فقد لقن منذ البداية كيف يتأمل الطبيعة عن قرب قبل أن يرسم، كما درس نشاط الإنسان والطير والحيوان وكيف تنمو الأشجار وتبدو الجبال، ثم شرع فيما لم يجل بخاطر أي فنان قوطي من الشمال، إذ حذف كل تفصيل يكون من ورائه تعقيد مشهده، وجعل تصميماته أقرب إلى البساطة والطبيعة مع حرصه على التنويع.وكان جوتو إلى جوار طبيعته الفنية الرهيفة الحس رجلاً واقعياً. فحرص على جمع ثروة ضخمة وأدار أملاكه بحذق ودراية. وتكمن المفارقة في أنه قد حاز هذه الشهرة وظفر بهذه الثروة وهو في خدمة الفرنسيسكان يصور فضائل الفقر والزهد حسبما تجلّت في حياة القديس فرنسيس. والثابت أنه كان رجلاً شريفاً مستقيماً ولم يكن مرابياً جشعاً كما حاول بعض كتّاب السير أن يصوروه، فقد كان يمتلك الأراضي والعقارات ويقرض المال بفائدة شأنه شأن أي ثري فلورنسي وقتذاك. وكان لورنزو دي مديتشي العظيم سبّاقاً إلى وضع صورة لجوتو في كاتدرائية فلورنسا تقديراً لعظمة هذا الفنان الخالد، كما ذكره صديقه دانتي في النشيد الحادي عشر من "المطهر" في الكوميديا الإلهية بقوله: "لقد اعتقد تشيمابويه أنه في فن الرسم راسخ القدم، ولكن الصيحة الآن لجوتو، حتى لقد أظلمت شهرة الأول(34) الكوميديا الإلهية لدانتي. ترجمة حسن عثمان 11: 94 صفحة 169. دار المعارف ".ومنذ القدم كانت العمارة تعبيراً عن الإنسان، فلقد انطوت معابد الإغريق والرومان وكاتدرائيات العصور الوسطى على معتقدات الإنسان عن نفسه وعن آلهته، وجاء النحت فرعاً متمماً للعمارة بينما أدى التصوير دور العنصر الزخرفي حتى ظهر جوتو ليقلب ذلك المفهوم رأساً على عقب لا بقصد التغيير وإنما بصفته مصوّراً مجدّداً وأداة لهذا التغيير، فنال التصوير على يديه مكانة لم يظفر بها من قبل، وظل الحال كذلك على الرغم من الابتكارات المعمارية الفذّة التي قدّمها المعماري برونليسكي وأضرابه ومنجزات النحت الرائعة التي قدّمها أمثال دوناتللو حتى ظهر ميكلانجلو وانتهى إلى تصوير سقف مصلى سيستينا في عام 1512. وتضم الفترة الواقعة بين تصوير لوحات جوتو الجدارية وبين تصوير سقف سيستينا فنانين عظماء آخرين من أمثال مازاتشيو في فلورنسا وبييرودللا فرنشسكا في أرتزو ورافائيل في الفاتيكان، بينما قدم شمال أوربا بمزاجه الذي يباين غيره من الأمزجة روائع خالدة مثل صورة مذبح جِنت لفان إيك وصور مذبح أيزنهايم لجرو نيفالد إلى غير ذلك مما سأوسعه بحثاً في فصل تال.اختط جوتو طريقاً احتذاه المصورون قرابة ستة قرون برغم ما اعتراه من تنوّع، وهو طريق لم يعقه عائق حتى ظهور مدارس القرن العشرين العصرية أو على الأقل حتى ظهور الفنان سيزان. وكم يسترعي انتباهنا ذلك التشابه بين جوتو وسيزان فلكل منهما أسلوبه المبتكر، فعلى حين كان سيزان هو الحلقة بين التقاليد التي أرساها جوتو والمدرسة التكعيبية، كان جوتو هو الحلقة بين العصور الوسطى والتطور الثوري في عصر النهضة، ولا أقصد أن جوتو كان يرى نفسه ثورياً، وإنما أقصد أن فنه هو الذي كان ثورياً، فلقد أعاد توجيه مسيرة التصوير في تمثيله للعالم من حوله لا سيما بعد التغيير الجذري الذي طرأ على الفكر عموماً، فبعد أن ولّى عصر الإيمان الساذج نقل جوتو فن التصوير من فن رمزي إلى فن وجداني، وربط بين التصوير والكون والعواطف الإنسانية، وما كاد يفعل حتى أخذ التصوير يضرب في كل ميدان من ميادين اليقظة الفكرية والتوقّد الذهني.وفيما بين عصر جوتو وعصر ميكلانجلو جمع التصوير الفلورنسي أسماء عدة متألقة مثل مازاتشيو وفرافيليبو وبولايولو وفيروكيو وليوناردو دافنشي وبوتتشللي، وإلى جوار هؤلاء توهجت أسماء ساطعة في سماء الفن البندقي أيضاً يأتي على رأسهم بلليني وجورجوني وتتسيانو وتنتوريتو وفيرونيزي وتييبولو. والفرق بين المدرستين شاسع بعيد، فعلى حين كان الفنانون البنادقة مصورين فحسب، كان الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للفنانين الفلورنسيين. فنحن إذا غضضنا الطرف عن كونهم مصورين أفذاذ فهم مثّالون عباقرة، وإذا تناسينا أنهم مثّالون فهم أيضاً معماريون وشعراء وموسيقيون وعلماء لم يتركوا لوناً من ألوان التعبير إلا طرقوه وبرعوا فيه، وكان التصوير واحداً فحسب من بين مظاهر التعبير عن مواهبهم المتعددة. وكان جوتو أول الشخصيات العظيمة بين الفنانين الفلورنسيين، فبزغ معمارياً مبدعاً ومثّالاً ممتازاً وَفسيفسائياً بارعاً، وعرف بخفّة ظلّه وقدرته على نظم الشعر بطلاقة، لكنه اختلف عمّن خلفه من الفنانين التوسكانيين بقدرته الفذّة على اكتشاف ما هو "جوهري" في فن التصوير بصفة عامة وما هو "جوهري" في تصوير الشخوص بصفة خاصة.ولما كان التصوير يعتمد على خلق انطباع دائم ثابت بالحقيقة الفنية من خلال إضفاء بعدٍ ثالث على اللوحة المصورة في بُعدين اثنين بإعطاء قيمة لَمسيّة لانطباعات شبكية العين، لذا كانت مهمة الفنان هي إثارة الحس اللمسي للمشاهد، فيوهمه بأنه قادر على لمس الشكل المصور بأعصاب كفه وأنامله حتى لتكاد تدور مع النتوءات المختلفة على سطح "الشكل" قبل التسليم بأن ما يراه هو شيء حقيقي يملك تأثيراً متصلاً، وبهذا يكون الأمر الجوهري في فن التصوير هو تنبيه وعينا "بالقيم اللمسية(35) Tactile Values. اصطلاح ابتكره العلامة والمؤرخ الفني برنارد برينسون، قصد فيه إلى أن التصوير يعتمد على خلق انطباع دائم ثابت بالحقيقة الفنية من خلال إضفاء بُعد ثالث على اللوحة المصوّرة في بُعدين اثنين بإعطاء قيمة لمسية لانطباعات شبكية العين. لذا كانت مهمة الفنان هي إثارة الحسّ اللمسي للمشاهد فيوهمه بأنه قادر على لمس الشكل المصور بأعصاب كفّه وأَنامله حتى لتكاد تدور مع النتوءات المختلفة على سطح "الشكل" قبل التسليم بأن ما يراه هو شيء حقيقي يملك تأثيراً متصلاً. وبهذا يكون الأمر الجوهري في فن التصوير هو تنبيه وعينا بالقيم اللمسية.(م.م.م.ث). " بإمداد الصورة بنفس القوى التي يتمتع بها الموضوع المصوّر حتى تثير خيالنا اللمسي، ومن ثم كان طبيعياً أن يُعنى جوتو باختيار العناصر ذات الدلالة الجوهرية والمادية المباشرة وتسجيلها. ومن الثابت أنه ليس ثمة عنصر يمكن التعبير من خلاله عما له دلالة مباشرة مثل الجسد البشري خاصة الجسد العاري، وأن هناك علاقة وثيقة واضحة بين ما تسجله شبكية العين للمرئيات والإحساس بالقيم اللمسية، إذ تستطيع العين حين ترى نتوءاً أو شكلاً أسطوانياً أو محدّباً أن تنقله إلى الذهن والمخيّلة على الفور كما لو كانت الأصابع قد تحسسته ولمسته، بل إننا كلما خلعنا على الأشكال المادية الصفات البشرية ازدادت معرفتنا بها وإدراكنا لها. ولكن يبقى شكل واحد فحسب في الكون المرئي لا يحتاج إلى أن نعزو الصفات البشرية إليه، وهو الإنسان نفسه، فحركاته ونشاطه وإيماءاته هي أمور ندركها إدراكاً مباشراً دونما جهد لخلق لغة رمزية تدل عليها. ومن هنا فليس ثمة شكل مرئي يمتلك مثل هذه الإمكانيات الفنية كالجسد البشري، وليس مثله شكل يمكن أن نفطن بسرعة إلى التغييرات التي تطرأ عليه، وليس مثله شكل ندركه بمجرد تمثيله بما هو عليه في الحياة، وليس مثله شكل يمكن أن يتبدّى أثره بسرعة وقوة معمّقاً إحساسنا بأننا جميعاً شركاء في الحياة.وعلى هذا النحو يغدو "الجوهري" في فن التصوير - على العكس منه في فن التلوين [علاقات الألوان بعضها ببعض] - إثارة الإحساس بالقيم اللمسية لدى المشاهد، وهو المجال الذي برع فيه جوتو واستمد منه شهرته التي لا تبارى حتى باتت منجزاته مصدراً ثرّاً للبهجة الجمالية على مرّ الزمن. ويُلفتنا أن المصوّرين الفلورنسيين هم الفنانون الأوربيون الذين انشغلوا بجدية بالمشاكل المتعلقة بفن "تصوير الشخوص" بالذات، وأغفلوا أكثر من مصوّري المدارس الأخرى الاستعانة بالأنماط الجذّابة الجميلة أو المواقف درامية التأثير، غاضّين الطرف عن المتعة التي تبعثها الألوان، فلم يستغلوا عنصر اللون بطريقة منهجية، بل تكاد بعض أعمالهم الشهيرة تنطوي على ألوان فجّة، ذلك أن الأساتذة الفلورنسيين قد حصروا كل جهودهم في تنمية "الشكل(36) Form الشكل في الفن هو تمثيل الأشياء المختلفة سواء أكانت طبيعية أو تجريدية. وهو يمثل رؤية الفنان للموضوع لا مضمونه. (م.م.م.ث). " الذي أصبح وحده مصدر المتعة الجمالية الرئيسي في منجزاتهم. "فالشكل" في فن التصوير هو الذي يضفي على الموضوع المصوّر أكبر قدر من الواقعية، ويمنح المشاهد متعة نفسية متزايدة وإحساساً متجدّداً بطاقة استيعاب غير محدودة، حتى غدت المتعة التي نلمسها بالموضوع الواقعي المصوّر تفوق أحياناً المتعة التي نلمسها بالموضوع الواقعي ذاته، فضلاً عن أن إثارة خيالنا اللمسي توقظ إحساسنا بأهمية الحاسة اللمسية فنشعر أننا بتنا مزوّدين بقدرات حياتية أفضل، كما تمنحنا إحساساً بتزايد قدرتنا على الاستيعاب. وهذا لا يعني أن متعة الصورة تنحصر في القيمة اللمسية وحدها بل هي تتعدّاها أيضاً إلى ما تنطوي عليه من جمال التكوين الفنّي وسحر الألوان، هذا إلى ما فيها من دلالات إيمائية وحركية وغير ذلك من مفاتن التصوير. ولكن إذا لم يتوفر في الصورة ما يلفت خيالنا اللمسي فإنها تصبح أبعد ما تكون عن الجاذبية النابعة من الواقعية التي تزيدها الأيام عمقاً وَرسوخاً، لأنها إذا لم تكن كذلك فسرعان ما ينفد معينها وتنضب قدرتها على شدّ مشاعرنا، وتفقد ما ينطوي عليه جمالها من دلالة جوهرية كان ينبغي ألا يتغير شعورنا إزاءها وإن عاودنا النظر إليها مرة بعد مرة.ويستطيع القارئ أن يتبين كيف استطاع جوتو أن يثير فينا الخيال اللمسي إذا ضاهى بين صورتين متجاورتين بمتحف أوفيتزي بفلورنسا تتناولان موضوعاً واحداً هو "العذراء فوق عرشها تحمل يسوع الطفل" إحداهما للفنان تشيمابويه (لوحة 5) والأخرى لجوتو (لوحة 6) - وكان تشيمابويه (1240 - 1302) حلقة الوصل بين التقاليد الفنية البيزنطية وثورة جوتو الفنية، وقيل إن جوتو قد تتلمذ على يديه - فسيجد أن الفارق بينهما شاسع، لأنه ليس فارقاً بين أنماط أو قوالب نموذجية فقط بل هو فارق في طريقة التنفيذ وتحقيق الغرض. فمع لوحة تشيمابويه نجهد مع الصبر والأناة لفك مغاليق الخطوط والألوان كي نتبيّن مغزاها حتى ننتهي إلى أن الصورة تمثل امرأة جالسة تلتفّ حولها كوكبة من الملائكة وأدناها أربعة من القديسين، على حين أننا ما نكاد نتطلع إلى لوحة جوتو حتى ندرك مضمونها على التو، فالعرش يحتلّ فراغاً ملحوظاً والعذراء من فوق العرش في جِلسة مرتضاة والملائكة مُصطفّة حولها، ولا غرو فقد مارست مخيلتنا اللمسية دورها على الفور، فشاركت أكفنا وأصابعنا عيوننا بأسرع مما كانت تفعل لو أنها كانت تتطلع إلى المشهد نفسه على الطبيعة. ولا يسع المرء إلا الاعتراف بأن هذه الصورة تحمل بعض الأخطاء، كقصور الأنماط الممثّلة عن التعبير الأمين عن "المثل الأعلى للجمال" وضخامة الشخوص التي تبدو مفاصل أطرافها مطموسة مما أفقدها طواعيتها للحركة، غير أن سماتها الأخرى الجديرة بالتأمّل ترغمنا على التجاوز عن هذه الهنات.وينزع جوتو عادة نحو الأنماط ذات الأشكال والوجوه البسيطة الضخمة التي تُلفت الخيال اللمسي، كما يلجأ إلى استخدام أبسط الأضواء والظلال، ومن ثم تشمل خطة ألوانه أخفّ الألوان وطأة في الوقت نفسه الذي تنطوي فيه على أشدّ التباينات، ويهدف في تكويناته الفنية إلى وضوح تجمّعات الشخوص حتى يظهر كل منهما بقيمته اللمسية المناسبة. والعجيب الذي يشدّ الانتباه في لوحة جوتو السالفة هو ظلالها وأضواؤها، فعلى حين تبيّن الظلال الأسطح المقعّرة تكشف الأضواء عن الأسطح المحدّبة، وبتلاعبه بالأضواء والظلال وبالخطوط الموظّفة توظيفاً عملياً فعّالاً نفطن على الفور إلى الدلالة الجوهرية في كل شكل من أشكاله عارياً كان أم كاسياً، فكل ما تضمّه اللوحة يؤدّي وظيفته في النسق الفني العام نظاماً وتركيباً وتكويناً، وكل خطّ له وظيفته، مؤدّياً دوره في تحقيق هدف معيّن تحدد وجوده واتجاهه الحاجة إلى إضفاء القيمة اللمسية على الصورة، فإذا تتبّع المرء أي خط في هذه اللوحة أو في غيرها من لوحاته وجده يحوط الشكل ويجسّمه بما يساعد على تبيّن الرأس والجذع والردفين والساقين والقدمين في يسر، كما تحدد الحركة المصورة انسياب الخط ووجهته وغلظه ولطفه، فليس ثمة صورة لجوتو لا تنطوي على هذه الميزات.وإذا كانت أهم ميزة فنية تنفرد بها إنجازات جوتو وتعدّ بحق إسهامه الشخصي في فن التصوير هي إضفاء القيم اللمسية عليه فليس معنى ذلك أنه يفتقر إلى غيرها من المزايا، فقد كان رغم قصور الوسائل الفنية في عصره يلجأ حين يتناول موضوعاً دينياً إلى إسباغ وقار المواكب الدينية والجلال الكهنوتي والمغزى الروحاني عليه. وإذا انتقلنا إلى تصاويره الترميدية(37)Grisaille التصوير بدرجات اللون الرمادي على الجدران أو السقوف بحيث يَهِمُ المُشاهد بأنها نقوش ناتئة. (م.م.م.ث). الوعظية الرامزة التي صوّرها على جدران مصلى "آرينا" ببادوا كالظلم والبخل والإيمان على سبيل المثال، ندرك على الفور أنه لا بدّ قد ساءل نفسه: ما هي الدلالات الجوهرية والمادية في مظهر وسلوك وإيماءات الشخص الذي تسيطر عليه مثل هذه الرذائل أو يتحلى بمثل تلك الفضائل؟ ثم يعكف بعد ذلك على رسم هذه الشخصية في صورة تعيد إلى الذاكرة هذه الرذيلة أو تلك الفضيلة، فإذا هو يصوّر "الظلم" رجلاً قويّ البنية في عنفوان عمره يرتدي ثياب القضاة بينما تقبض يده اليسرى على مقبض سيفه واليمنى ذات الأظافر المخلبية على رمح ذي خطّاف مزدوج، وترقب عينه القاسية ما يجري بين يديه في صرامة متأهّباً للانقضاض بكل قوّته على فريسته، ويجلس في اعتداد فوق صخرة تُطلّ على أشجار شاهقة، وقد احتشد أتباعه تحت الصخرة يجرّدون أحد المارة من ثيابه وجواده وممّا يحمله معه ثم يفتكون به (لوحة 7). وإذا هو يصوّر "البخل" عجوزاً شمطاء أذنها كالبوق، وقد أطل من فمها ثعبان يتحوّى ليلدغ جبينها، بينما تقبض يسراها على كيس نقودها وهي تسير متسللة تتلهّف يمناها لاستلاب أي شيء (لوحة 8). كما صوّر جوتو "الإيمان" في شكل سيدة تمسك بالصليب في يد وبلفيفة في اليد الأخرى (لوحة 9)، ومثل هذه الصور الرمزية لا حاجة بها إلى تعريف يوضح مقاصدها ما بقيت هذه الرذائل والفضائل منتشرة بين الناس. وقد يحلو للمشاهد أن يرد تلك الأشكال المصورة الدقيقة إلى الشخوص الرامزة المنحوتة على مدخل الكاتدرائيات القوطية المنتشرة في فرنسا وشمال أوربا، ولكنه ما يلبث أن يفطن إلى الفارق الشاسع بين أعمال المثّالين القوط وبين هذه الأشكال المصورة الدقيقة التي تفيض بالحكمة والموعظة، فتسترعي انتباهه محاولات التضاؤل النسبي وتجسيم الوجوه واستخدام الظلال في طيّات الثياب المنسابة، فلقد انصرم ما ينوف عن ألف عام منذ آخر مرة ظهرت فيه هذه المحاولات، وإذا جوتو يُعيد اكتشاف فن الإيحاء بالعمق فوق سطحٍ مستوٍ.وثمة نموذج آخر يكشف عن حسّ جوتو الرهيف بكل ما هو جوهري ذو دلالة هو تناوله الحاذق للإيماءات والحركة التي سرعان ما توحي بالمعنى الذي يبغيه، على نحو ما نرى في لوحة الفريسك "دخول المسيح إلى أورشليم" بمصلى آرينا في بادو (لوحة 10). فمن خلال الخطوط ذات الدلالة، والضوء والظل ذي الدلالة، والنظرات المتجهة إلى أعلى أو أسفل ذات الدلالة، والإيماءات ذات الدلالة، ومن خلال أبسط الوسائل التقنية المتاحة وقتذاك، - وعلى الرغم من الدراية المنقوصة المبتسرة بأصول التشريح آنذاك - نقل إلينا جوتو الإحساس التام بالحركة.وكان الفنان جوتو من أوائل الروّاد الذين استخدموا العناصر الشرقية التجميلية في التصاوير التاريخية الدينية الأوروبية بغية محاكاة الواقع، فإذا هو يصور الإنسان الشرقي بملامحه وأزيائه من عمائم وأردية فضفاضة وإسراف في التجمّل بالحليّ والجواهر وكأنه كان يعايش أهل تلك الأمصار الجغرافية التي عاصرت أحداث الكتاب المقدس، كما صور عناصر الطبيعة والعمائر الشرقية والنباتات الإقليمية كالنخيل والطير كالطواويس والحيوان كالنوق والحمير والتنانين والقردة على غرار ما وقعت عليه عيناه في كتب الرحّالة والقناصل والحجّاج والمبشّرين التي كانت في أغلب الأحيان تنتظم رسوماً توضيحية للأماكن المقدّسة وأنماط العمارة والأزياء وقسمات الوجوه وتضاريس المنطقة. ومن هنا جاءت الصورة الشرقية في لوحاته وإنجازات من ساروا على نهجه حافلة بمثل هذه الزخارف الجميلة.وتكاد الكثرة من مؤرّخي الفن تُجمع على أن اللوحتين الأوليين من مجموعة لوحات كنيسة القديس فرنسيس بأسيزي هما من تصوير جوتو نفسه، وإذ كان المعروف عنه أنه يستعين في إعداد رسومه بنفرٍ من المساعدين، فمن العسير تعرّف ما له وحده من بينها، ويرى الزائر وهو يعبر البوابة الرئيسية إلى يمينه لوحة "معجزة النبع" (لوحة 11) تقابلها يساراً لوحة "موعظة الطير" (لوحة 12)، ولعل جوتو قد اختار موقع هاتين اللوحتين بالقرب من مدخل الكنيسة لكي يتأثّر الحجّاج الوافدون أول ما يتأثّرون بمغزى أسطورة القديس فرنسيس التي تنطوي عليها هاتان اللوحتان. وتوحي سيرة هذا القديس فيما تمثّله تلك اللوحات بما كان له من عون للفقراء ومساعدة لأبناء السبيل، ثم إلى ما كان له من حدب على مخلوقات الله لا سيما الطيور التي كان يناديها باسم أخواته. والمعروف أن جوتو قد استلهم تصاويره من سيرة القديس فرنسيس التي دوّنها القديس بونا فنتورا، وكانت لوحة معجزة النبع تروي حادثاً عرض للقديس أثناء إحدى جولاته التي تحكيها أسطورة "الرفقاء الثلاثة". وفي هذه القصة نرى كيف اضطر القديس ورفيقاه حتى يصعد إلى الدير القائم فوق جبل لافيرنا إلى الاستعانة بفلاح معدم وحماره، وكان الطقس شديد الحرارة والطريق وعراً عبر جبل أجرد ممّا أحسّ معه الفلاح بعطش شديد حتى كاد يهلك ظمأ، فإذا هو يصيح مُوَلولاً بعد أن ثبت له أنه لا محالة مشرف على الهلاك إن لم يُسعفه القدر بجرعة ماء. وعندها خرّ القدّيس فرنسيس راكعاً مبتهلاً إلى الله، ثم إذا هو يمسك بيد الفلاح ينهضه من مجثمه مشيراً إلى صخرة في الجبل قائلاً له: "هناك ستجد ما يروي ظمأك، فثمّة عين ماء فجرها المسيح إشفاقاً عليك"، ولم يكن هذا العطش الذي أشارت إليه الأسطورة بطبيعة الحال عطشاً بدنياً فحسب بل هو عطش روحاني أيضاً.وبقدر ما تتجلّى روعة التكوين الفنّي في هذه اللوحة فهو شديد البساطة، حيث يبدو القديس فرنسيس مُكتسياً برداء طائفته مُحتلّاً مركز البؤرة من الصورة على مقربة من قمّتين صخريّتين، تبدو تلك الواقعة وراءه وقد غمرها الظل، وتبدو تلك التي يرفع ذراعيه أمامها ابتهالاً غارقة في فيض من النور المتوهّج، ويهبط الضوء مائلاً فوق تضاريس الجبل المتدرجة حتى تبلغ حدّته الذروة حول رأس القديس فيتّحد مع الهالة المحيطة برأسه. وفي ظل القديس يتراءى رفيقاه وحماره على امتداد اتجاه النور الهابط، ويتوازن شكل الفلاح المعتم الذي يروي عطشه من النبع في أسفل الجهة اليمنى من الصورة مع الجبل المغمور بالظل في أقصى اليسار العلوي، وهو ما يرمز إلى أنه ما يزال متعطّشاً إلى ارتواه روحه. ولما كانت صورة القديس فرنسيس هو الآخر قد ظهرت على نفس الخط المائل، فالراجح أن الفنان قد قصد بذلك الإيحاء بإشراقة الاستنارة. وتضم اللوحة أحد جبال جوتو التي نراها في الكثير من منجزاته، والتي لا سبيل إلى محاكاتها فهو لا يصوّر الجبال كما هي في الواقع وإنما هو يتصرّف بأحجامها بحيث تتواءم مع الطبيعة البشرية. فجباله دائماً على وفاق وتناغم مع الشخوص التي تجتازها، وهي في هذه اللوحة تغري المشاهد بأن يتأمّل مغزى الحادث الخارق المُعجز، على حين يتجاذب راهبان أطراف الحديث وقد شملتهما الحيرة. على أنه مما يسترعي الانتباه أن النسب التي راعاها جوتو غير صحيحة من الوجهة الواقعية وإن كانت سليمة من الوجهة السيكولوجية، فتبدو شخوصه ضخمة بالقياس إلى الجبال، كما تظهر الأشجار متناثرة للإيحاء بالانفساح لا لمحاكاة مشهد الأشجار الطبيعية التي تضمّها مثل هذه البيئة. هكذا وفّق جوتو في استغلال تضاريس الجبال الوعرة وفي استخدام الضوء والظل لإبراز الحجم والكتلة المناسبين لإضفاء نبضات الحياة على شخوصه وجعلها واقعاً ملموساً.وإذا كانت لوحة "موعظة الطير" المواجهة أدنى مرتبة من زميلتها من الناحية الدرامية إلا أنها تفوقها من الوجهة الشاعرية الغنائية، حيث نرى الطيور تحلّق محوّمة حول القديس فرنسيس إلى أن تحطّ على الأرض وتومئ برؤوسها نحوه بينما يخاطبها قائلاً: "أيها الطير أخي في الخلق، سبّح معي بحمد الخالق الذي كساك ريشاً ووهبك جناحين تطير بهما، وأفسح لك في فضائه تسبح فيه كما تشاء، وأظلّك بحمايته وما كان أضعفك عن أن تحمي نفسك".ومرّةً أخرى يكشف الفنان عن مهارة خلّاقة في التعبير عن الدلالة الجوهرية للموضوع وعن قصد بليغ في الوسائل التي استخدمها لنقل هذا المغزى العميق. فعلى حين يبدو القديس فرنسيس مُنحنياً وهو يتطلّع إلى الطير وقد رفع يده يباركها ترتفع يد رفيقه دلالة نفاد الصبر والتبرم بما يفعله صاحبه، وكأنه على وشك أن يهشّ بها أخواته الصغار من الصورة. ولقد كان لعوادي الزمن وأخطاء المرمّمين المتعدّدين ما انتزع الكثير من روعة لوحة جوتو، ومع ذلك لا تزال الدلالة الجوهرية والرسائل المعبّرة للصورة تتسلّل إلينا بوضوح دون حائل.ومن بين لوحات هذه الكنيسة تصويرة تنطوي على دراما إنسانية عنيفة هي لوحة القديس فرنسيس يخرج عن طوع أبيه زاهداً في ميراثه (لوحة 13). فذات مرة وفرنسيس في شبابه كان يمر بإحدى الكنائس المهملة فدخل وصلّى وإذا به يسمع صوتاً من السماء يأمره بإصلاح الكنيسة فنهض لتوّه ليبيع سراً بعض السلع في مخزن أبيه، الأمر الذي أغضب والده فدفع به إلى المحاكمة. وقد وصف بونا فنتورا هذا المشهد قائلاً: "صحب الوالد المغيظ المملوء حنقاً ابنه الشاب القديس فرنسيس إلى أسقف المدينة ليضطره إلى التخلي عما هو عليه من خلعٍ لأبيه، وما كان أسرع الفتى إلى أن ينزع عنه ثيابه ويطرحها بين يدي أبيه متجرّداً عن دنياه ليخلص إلى آخرته، وأخذ وهو عارٍ يقول: "قبل هذا كنت أناديك يا أبي الذي على الأرض، ومن الآن فصاعداً سوف أتجه إلى ربّي الذي في السموات الذي أعلّق عليه الأمل والرجاء". وما إن سمع الأسقف هذا القول يجري على لسان الفتى حتى اهتزّ له قلبه ونهض ليطوّقه بذراعيه باكياً، ثم إذا هو يخلع عن نفسه عباءته ليطرحها على الفتى، ويأمر أتباعه من حوله بأن يحذوا حذوه ويزوّدوا الفتى بما يستره.ولو كان مثل هذا المشهد بين يدي فنّان أقل مهارة من جوتو لجاء ميلودرامياً واهياً أو مثيراً للتندّر، غير أن إحساس جوتو بالصراع الدرامي وإدراكه للدلالة الجوهرية لم يكن يقل عن براعته في التصوير، فالأب الغاضب المتلهّف للالتجاء إلى العنف في سبيل تثبيط عزيمة ابنه كان في حاجة إلى من يكبح جماحه من بين الواقفين وراءه، ومع ذلك ظلّ وجهه ينطق بالقلق الذي يمزّق قلب أب شديد التعلّق بولده الضال عاجزاً عن إدراك ما يدور بخلده. وبهذا كشف جوتو عما يعتمل من صراع داخلي في نفس الأب الذي وجد نفسه مُرغماً على التخلّي عن الآمال التي عقدها على ولده كي يحقّق في الحياة الدنيا ما يصبو إليه من نجاح مادي، فإذا شخصيته بوصفه البطل الندّ في الدراما تتوازن مع شخصية الأسقف الذي يغدو من الناحية الرمزية الأب الجديد للقدّيس الشاب. ويعزّز هذه الشخوص المتوازية في يسار اللوحة، البيت ذو الدرج وأهل المدينة المحتشدون على حين يدعمها من الناحية الأخرى الراهبان وعمارة الكنيسة الرامزة إلى بيت الله، وتتجلّى واضحة أمامهم صورة القدّيس إلى جوار الكنيسة وهو يرفع يده ضارعاً إلى الله بينما تجيب عليه يد الله الهابطة نحوه من قمة الصورة.وعلى الرغم من أن جملة من النقاد قد استنكرت هذه اللوحة معتبرة انقسامها إلى شطرين مما ينزع عن الصورة وحدتها، يعدّ البعض الآخر هذا الانقسام براعة درامية لا ضريب لها، إذ ليس ثمّة وسيلة أخرى للتعبير عن انقسام العالم إلى شطرين: عالم الجسد الساعي وراء المادة وعبادة المال، وعالم الروح الساعي نحو الغايات الروحية وعبادة الله. ونرى في مقابل الخطوط الرأسية للمجموعتين المنقسمتين أدنى الصورة، معادلها الأفقي في مثلث قاعدته تتشكل من المجموعتين في أسفل الصورة بينما يسمق أحد الضلعين الضلعين مرتفعاً من خلال حركة يد القديس فرنسيس حتى يبلغ القمة عند يد الله الهاطلة من السماء. وحتى إذا سلّمنا بأن الوسائل التي استخدمها الفنان بالغة البساطة، بل حتى لو كانت ساذجة بعض الشيء فمن المشكوك فيه أنه كان في الإمكان التعبير عن الدلالة الدرامية الكامنة بمثل هذا الوضوح أو بمثل هذه الوسائل المرئية المباشرة.وثمة نموذج فذّ لأسلوب جوتو في أواخر حياته هو لوحته المعروفة باسم "وفاة القديس فرنسيس" (لوحة 14، 15) والتي أنجزها مع سبع لوحات أخرى بكنيسة سانتا كروتشي [الصليب المقدس] بفلورنسا. وعلى الرغم من كثرة الأيدي التي تناولتها بالإصلاح والترميم فما تزال مفاهيم جوتو تحفظ للصورة مكانة مرموقة بين أسمى التصاوير خلال عصر النهضة. وقد استلهم جوتو موضوع هذه اللوحة مما خطّه بونا فنتورا حول وفاة القديس قائلاً: "وعندما بلغ النهاية في اتصاله بالملأ الأعلى أسلم الروح التي تحرّرت من ربقتها الجسدية صاعدة إلى الأمجاد السماوية مخلّفة وراءها ذلك الجسد الفاني مُستغرقاً في نومة لا يقظة بعدها. وكان إلى جواره وهو يلفظ أنفاسه رفيقٌ تجلّت له روح القديس وهي مصعدة في السماء على صورة نجم متألّق من تحته سحابة بيضاء تتوهّج بنور هذا النجم وهي تتأرجح في صعودها إلى الملأ الأعلى". ويشير الزمان في هذه الصورة إلى لحظة الموت، كما يشير المكان طبقاً لرواية فنتورا إلى فناء دير الفرنسيسكان بأسيزي. وليس ثمّة حركة تختلج في الجسد المُسجّى الذي يُضفي بسكونه الوحدة على الصورة، وتتلاقى كافة الخطوط المنحنية التي تكوّنها الأردية وإيماءات أفراد المجموعات الخمس المحيطة بالجثمان عند رأس القديس التي تمثل مركز البؤرة في الدراما. ويتجاوب الإطار المعماري مع تجمّعات الشخوص وكأنّه صداها، فتبدو الصورة وكأنّها جزء لا ينفصل عن الجدار الذي تزيّنه، بينما تشكّل البوّابات ذات السقوف المسنّمة على كلا الجانبين لوناً من ألوان التقابل المعماري مع مجموعتي الشخوص على الجانبين. وعلى حين تتوازى الخطوط الأفقية للجدار الخلفي مع الخطوط المحددة لجثمان القديس، تتناغم الخطوط الرأسية المحددة للمباني مع الشخوص الواقفين والراكعين. ويؤدّي الاتجاه المائل للصليب الذي ترتفع به أيدي مجموعة الشخوص على الجانب الأيمن دوراً في تلطيف أثر الخطوط الأفقية والعمودية الطاغية على اللوحة، كما تنهض الألوان بدور الإيحاء بالعمق الذي يتعذّر تبيّنه في هذه الصورة الفوتوغرافية المطبوعة، فإذا الفنان يصوّر معطف الأمير الراكع شديد الحُمرة للإيحاء بأمامية الصورة، ويدثّر بقيّة الشخوص بعباءات بنّية ورمادية محايدة للإيحاء بمنتصف عمق اللوحة، على حين لوّن السماء التي تعلو جدار صحن الدير بزرقة داكنة متدرّجة متطامنة للإيحاء بخلفية الصورة، وذلك دون أن يفوته الربط بين العنصر الوجداني وبين إيقاعات الخطوط، وبهذه الوسائل السديدة وفّق جوتو إلى تحقيق الوقار المواكب لموت أحد الخالدين. ويبلغ التوتّر الدرامي مداه عند الهالة النورانية المحيطة برأس جثمان القديس الساكن، ومنها إلى الرؤيا الجليلة التي تموج بالحركة أعلاها. وطبقاً لوصف بونافنتورا يلمح المشاهد هذه الرؤيا من خلال نظرات الراهب الواقف وراء رأس القديس مباشرة، إذ تنقل يده المرفوعة أبصارنا إلى أعلى صوب النجم السماوي بينما يطرق الرفقاء الآخرون بهاماتهم حزناً وهم يودّعون رفيقهم ورائدهم الوداع الأخير. وهكذا يتشكّل أمامنا في فراغ لوحة جوتو مثلث تعبيري يحدّده ضلع الصليب من جانب وضلع من جانب آخر يوحي بامتداد نظرة الراهب صوب الرؤيا السماوية حيث يلتقيان.وفي مدينة بادوا كان ثمّة مراب يُدعى سكورفيني بلغ من سوء سمعته أن وضعه الشاعر دانتي في الطابق السابع من الجحيم. وما من شكّ في أنّ هذه اللعنة التي حلّت بسكورفيني الشيخ قد أقلقت بال ابنه إنريكو الذي سارع بتشييد مصلى باسم أبيه علّه يكفّر بها عن ذنوبه وعهد إلى جوتو بزخرفة جدرانها، وكان أن خلّد المصوّر هذا الحادث ضمن لوحته الكبرى يوم الحساب (لوحة 16، 17) قاصداً أن يدرك زائر المصلى أول ما يدرك أن هذا المبنى قد شيّد استدراراً لرحمة الله وغفرانه.ويُطلق على مصلّى سكورفيني عادة اسم مصلّى الحلبة "آرينا" نظراً لكونها مشيّدة فوق موقع حلبة رومانية قديمة، وقد جرى تكريسها في عام 1305، وما لبث جوتو أن عكف على زخرفة جدرانها. وليس للبناء ذاته قيمة معمارية حتى ولو كان جوتو هو مصمّمه، فقد جاء على شكل سقيفة مسنّمة من الآجر لا يجاوز طولها ثلاثة وعشرين متراً، تعلوها قبوة أسطوانية تضيئها من أحد الجانبين ست نوافذ طويلة ضيقة وتنتهي بحنيّة عادية، غير أن جدرانها الجانبية احتشدت بلوحات جوتو الثماني والثلاثين التي تتناول حياة العذراء والمسيح وحنه وغيرهم، وكلها موضوعات سبق أن طرقها المصورون مئات المرات ولكن جوتو أعاد صياغتها بتفسيره الخاص الذي قفز بفن التصوير إلى المكانة السامقة التي بات يحتلّها بين الفنون حتى عاش الفن منذ هذا العهد وسيلة الفنان في التعبير عما يجيش في صدور الناس من تطلعات بأن الحياة الدنيا رهن بيد القدر الذي يقضي فيها وحده. فصوّر إنريكو وهو يقدّم النموذج المصغّر للمصلى إلى ملائكة ثلاثة تحيط برأس كل منهم هالة نورانية، وقد ركع أمامهم مادّاً يده اليمنى مرتكزاً إليها النموذج على حين رزح ثقل النموذج كله على كتف أحد أتباعه من القسس، باسطاً يده اليسرى في رهبة وخشوع صوب أحد الرسل الثلاثة الذي مد له هو الآخر يده علامة الرضا والقبول حتى تكاد اليدان تتلامسان. ويبدو الرسل منتصبين في وقار وقد انحنت رؤوسهم قليلاً صوب إنريكو وهو ضارع إلى الله، وتجلّى في محياهم مزيج من الجلال والرحمة المناسبين لدورهم كرسل يصلون بين ملكوت السموات وملكوت الأرض، على حين ركع إنريكو في خشوع لا ينتقص من كبريائه. وفي العصر الذي كان المصورون يكتفون فيه بتسجيل تعبيرات قليلة من ملامح الوجه، صوّر جوتو رأس إنريكو وكأنه بورتريه يحاكي الأصل، فإذا هو يكشف عما يختلج في صدر إنريكو من العواطف والانفعالات في لحظة الرهبة خشية ألا يتقبّل الرب نذره في الوقت الذي يبدو عليه أن مخاوفه قد تبددت بفرحته عندما أدرك قبول الربّ للكفّارة التي قدّمها. ومع ذلك نلمس أيضاً أنه حتى أثناء فرحته قد تمكّن من كبح انفعاله والسيطرة عليه. نجح جوتو في تصوير هذا الموقف بكل ما يموج به من عواطف على الرغم من المصاعب التقنية التي تكتنف فنّاً كان ما يزال يشق طريقاً جديداً في سبيل تمثيل أحداث تذكارية خالدة، ومن زوايا رؤية لم يقدّمها فنان من قبل بأسلوب واقعي.على أن هذه اللوحة تنطوي أيضاً على أخطاء تقنيّة وإن لم تكن ذات أهمية كبيرة؛ مثل وضعة(38) Pose. الوضعة هي ما يكون عليه الجسم أثناء التصوير قائماً أو قاعداً أو متّكئاً أو ملتفتاً أو مشيراً، إلى غير ذلك. (م.م.م.ث). يد إنريكو اليسرى البعيدة ومعصمه اللذين يبدوان وكأنّهما ينطلقان من ذراعه اليمنى القريبة، وكذا اختفاء ساقه اليمنى التي تبدو وكأنها بُتِرَت عند الموضع الذي ترتكز فيه الركبة على الأرض، فضلاً عن تصوير المنظور غير الدقيق لنموذج المصلى، وكلّها عقبات تقنيّة لم تجد لها حلّاً إلّا بعد مرور مائة عام، غير أن جوتو لم يترك محاولة تجديد إلا أقدم عليها، فهجر المصطلحات الفنيّة المُتعارف عليها في كتالوجات الرسّامة والتصوير وصاغ أشكال شخوصه في تكوينات درامية فجّرت ثورة عارمة لا من حيث التقنية فحسب بل في روح فن التصوير بأكمله.ومن بين أجزاء لوحة يوم الحساب في أسفل الجانب الأيسر بمصلّى آرينا ما يمثّل عذاب الجحيم، ويلفت نظرنا فيه تكوين يضم أربعة شخوص عراة من الخاطئين (لوحة 18). وتصوير العراة فنّ طرأ بِآَخِرَةٍ على التصوير في العصور الوسطى، ونراهم وقد عُلّقوا من الأجزاء أو الأطراف التي أثموا بها رجالاً ونساءً، فأحدهم معلّق من لسانه، وثانيهما امرأة معلّقة من شَعرها، وثالثهم رجل معلّق من مذاكيره، وفي موقع آخر من الجحيم يبدو أحد الزبانية وهو يخصي زانياً بكلّابتين. ومن الطريف أن نعقد مقارنة بين هذا التكوين الذي أنجز في مطالع القرن الرابع عشر (1308) وبين منمنمات مخطوطة "معراج نامه" الفارسية المحفوظة بدار الكتب القومية بباريس والمُنجزة في عام 1436، ويتجلّى فيها أحد الزبانية وقد انبثق اللهب من فمه وهو يحرس رجالاً خاطئين يعذّبون في جهنّم وهم معلّقون بالخطاطيف نظير ما ارتكبوا من رياء وإعراض عن تأدية فريضة الصلاة، تُرى هل هو مجرّد توارد خواطر؟ (لوحة 19).وقبل أن نُغادر مصلّى الحلبة لا يفوتنا التعليق على لوحة "إيداع جثمان المسيح القبر" (لوحة 20، 21) فهي نمط معجز من التصوير حتى ليمكن تشبيه شخوصها بالمنحوتات. وكان جوتو قد أفاد الكثير من دراسته وتحليله لفنّ النحت الكلاسيكي، فإذا شخوصه تتجلّى نابضة بالحيوية متميّزة بالتجسيم المتقن يجمّلها سرب الملائكة الذي يحلّق آسياً كالطيور التي يعذّبها الشجن، ولا ينبثق من الأرض القاحلة المحيطة غير شجرة وحيدة جرداء، فليس لشيء أن ينمو ويزدهر أمام مأساة موت المسيح. وتعدّ هذه الشجرة من الناحية الرمزية إرهاصة بما تفتّق عنه ذهن دانتي بعدُ حين صوّر شجرة المعرفة بعد أن تجرّدت من أوراقها في أعقاب خطيئة آدم وحواء وإذا هي تكتسي بالاخضرار عند موت المسيح بعد أن قدّم حياته كفّارة عن خطيئة الإنسان الأصلية. وينبني التكوين الفني في اللوحة على حركة مندفقة يحدّدها جسد المسيح تسانده الشخوص المنتصبة كالأعمدة على الجانبين. وإن كان ثمّة إسراف في هذا التكوين فهو احتشاده بالهالات التي كان ينبغي ألّا تكلّل غير القديسين الذين يبدون في الصورة بشراً يحسّون الفجيعة والحسرة شأنهم شأن الإنسان العادي. وعلى الرغم من أن لوحة "إيداع جثمان المسيح القبر" تصوير مسيحي رائع لنص مسيحي مقدّس إلّا أنّها حتى إذا انفصلت عن هذا النص فستظل تصويراً شديد التأثير، فشخوصها منفردة أو مجتمعة تروي واقعة محزنة ما تزال شديدة الإيلام للبشر جميعاً على اختلاف عقائدهم. فالعذراء وهي تنوح على ولدها أم ثكلى تتلظّى بعذاب فقدان وحيدها، وهي فوق ذلك تعبّر عن المشاعر التي يمكن أن يحسّها كلّ منّا في مثل موقفها. وكأيّ تكوين فنّي مأساوي عظيم سواء كان أدبيّاً أو مصوّراً تشدّنا هذه اللوحة وتطهّرنا من خلال ما نستشعره من لوعة وشجن، بل ورهبة. تلك هي طبيعة ثورة جوتو التي قادتنا إلى الدلالات الجوهرية في الوجدان الإنساني بلا تكلّف ولا حذلقة، إذ كانت ثورته التقنية في اتجاه التمثيل الواقعي موصولة بهذه الفكرة.