الاثنين، 1 يونيو 2009

أسلوب النهضة الإيطالية في فلورنسا

أسلوب النهضة الإيطالية في فلورنسا
على حين مضى شمال أوروبا في مسيرته المتأنّية مترسّماً الأساليب الرومانسكية والقوطية، نهجت إيطاليا نهجاً آخر إذ اختلفت فنون التصوير والنحت والعمارة القوطية فيها اختلافاً جوهرياً عن مثيلاتها في شمال أوروبا، فنجدها قد صُمّمت أكثر من غيرها كي تتواءم مع نسب الإنسان، كما نراها أقل غموضاً وإثارة للرعب والرهبة. ومع أن سمات الفن والفكر القوطي المتداولين في إيطاليا كانت ترهص بالكثير من روح عصر النهضة إلا أنه كانت أيضاً ثمّة مصادر أخرى تعود إلى ماض أبعد مدى، فأطلال الآثار الإغريقية والرومانية ما برحت منتشرة قائمة في طول البلاد وعرضها رغم الغزاة الجرمانيين الذين استقرّ بهم المقام هناك فترة فإذا هم يضيفون بمرور الزمن طاقتهم الدافقة إلى طاقة المواطنين الإيطاليين. هذا إلى أن إيطاليا لم تقطع صلتها قطّ بحضارات البحر المتوسّط وعلى الأخص الحضارتين الإسلامية والبيزنطية، فلم يكفّ التجار عن جلب التحف الفنية بل واصطحاب الفنانين من محارف الشرق. ومن كافة هذه الصلات بالفنون الرفيعة ترعرع عصر النهضة خلال القرن الخامس عشر واكتمل.ومعنى كلمة "الرينيسانس" Renaissance المتداولة هو البعث أو الإحياء، وكانت جذور فكرة الإحياء بإيطاليا قد تأصّلت منذ عهد جوتو، فعندما كان أفراد الشعب يزجون المديح لشاعر أو فنان ما وصفوا عمله بأنه عظيم عظمة القدامى، وبهذا الوصف نُعِتَ جوتو الذي قاد حركة الإحياء أستاذاً لجيله، وهو ما يعني أن فن هذا الرجل قد بلغ من الروعة والجمال ما بلغه فن العباقرة الذين جاء ذكرهم فيما رواه كتّاب روما واليونان الكلاسيكيون. وشيوع هذه الفكرة في إيطاليا بالذات لا يثير الدهشة، فلم ينس الإيطاليون أن بلادهم في الماضي البعيد وروما عاصمتها كانت مركز العالم المتحضّر، وأن قوّتها قد اضمحلت منذ أغارت القبائل الجرمانية من القوط والواندال على بلادهم مفكّكة أوصال الإمبراطورية الرومانية، ومن ثم كانت فكرة "البعث" مرتبطة أشدّ الارتباط في أذهان الإيطاليين بفكرة "إحياء" مجد روما القديم. وكانت الفترة بين العهد الكلاسيكي الذي يتطلّعون إليه بإعجاب وزهو وبين عهد الإحياء الجديد الذي يتطلعون إليه بمثابة فاصل مظلم كئيب، ومن هنا كانت فكرة البعث أو الإحياء هي المصدر الذي انبثقت عنه الفكرة التي تذهب إلى أن الفترة التي بينهما هي عصر وسيط. وإذ أنحى الإيطاليون باللائمة على القوط لقضائهم على الإمبراطورية الرومانية بدأوا يصفون فن تلك الآونة بأنه فن قوطي، يعنون بذلك أنه فن بربري، على نحو ما يتحدّث الأوربيون عن "الواندال" إذ قصدوا التعبير عن شهوة تدمير كافة عناصر الجمال في الحياة. وفي الحق إن هذا الزعم من جانب الإيطاليين ليس له ما يبرره، فثمّة سبعمائة عام تفصل بين زحف القوط وبين ظهور الفن الذي ندعوه الآن الفن القوطي. فلقد استعاد الفن مركزه بعد ظلام العصور الوسطى رويداً رويداً، ولعل مردّ عدم إحساس الإيطاليين بهذا النمو التدريجي - مثلما أحس به أهل الشمال الأوروبي - هو أنهم تخلفوا بعض الشيء خلال فترة من العصور إلى أن برزت أعمال جوتو المتألّقة بوصفها ابتكاراً عظيماً وبعثاً لكل ما هو نبيل وجليل في الفن.وقد تركّزت النهضة الحقيقية - التي كانت لقاءً غير مألوف بين العبقرية والطاقة والظروف - حول مدينة فلورنسا التوسكانية بإيطاليا، وحول مدينتين من المدن التجارية لا تقلان ثراء ولهما باع طويل في الإقدام والمغامرة هما بروج وجنت بإقليم الفلاندر. وهنا ولأول مرة منذ عصر أثينا الذهبي أثبت الفنانون والساسة والعلماء مجتمعين أنه ما خلى زمنٌ من الأزمان من عجيبة من العجائب، لكن أعجب العجائب كلها هو الإنسان، فإذا كل فنان يتابع اهتماماته الخاصة فيدرس التشريح وقواعد المنظور وعلوم اللون والبصريات والهندسة ومعايير الأوزان والمقاييس. ومع ازدهار المعرفة شاعت الصور المثالية المبتكرة للإنسان الذي كان رمزاً للجسارة والإقدام والهيمنة على ما عداه. وخلال قرن كامل ظهرت موجة من الفنانين اللامعين استحدثوا إيقونوغرافيةIconography هي قائمة الموضوعات التي تُعنى بها حضارة من الحضارات أو يشغل بها عهد من العهود أو يعالجها فنان من الفنانين. ومن ثم فهي تختلف عن قائمة المنجزات الفنية التي تشمل عدد الصور والتماثيل أو الأعمال التي تمت خلال حضارة من الحضارات أو عهد من العهود أو بواسطة فنان معين. وهي كذلك كل ما يختص بموضوع فني مصور تصنيفاً ووصفاً، وقد تدل أيضاً على البورتريهات والصور واللوحات المطبوعة التي تعرض لشخصية بارزة في أحوالها المختلفة. (م. م. م. ث). جديدة يزهو بها عصر النهضة ويختال.

الطراز القوطي الدولي..جسر بين العصور الوسطى وعصر النهضة

الطراز القوطي الدولي
حين أوشكت العصور الوسطى على نهايتها كانت فنونها قد بلغت ذروة تطوّرها، كما كانت تتناوبها آثار الواقعية الناشئة، فقد أتيح للتصوير بعد تحلّله من الصرامة والجمود أن ينهج نهج الاتجاهات الدنيوية الجديدة، لا سيما ما كان منها خاصّاً بالأوساط الأرستقراطية التي كانت لا تنفك موصولة بماضيها، ولم تجد النزعة التكلّفية التي كان إليها زمام التصوير بُدّاً من أن تنزل عن الكثير من غلوائها سعياً وراء الواقعية. وقد لاحظ مؤرّخو الفن منذ أكثر من نصف قرن أن عدداً كبيراً من التصاوير المؤرّخة ما بين عامي 1375 و 1425 تحمل تشابهاً شديداً بين بعضها البعض في جميع أنحاء أوروبا، بدءاً من إنجلترا إلى بوهيميا، ومن الأراضي الواطئة إلى إسبانيا وصقلية، وإن كانت الكثرة الغالبة منها تنتمي إلى مملكة فرنسا ودوقية برجنديا. وكيفما كان الموضوع المصوّر دينياً أم دنيوياً، فقد كانت التصاوير الجدارية الجصّيّة [الفرسكو] ومنمنمات المخطوطات والزجاج المعشّق والنسجيات المرسّمة والمطرّزات ولوحات الطلاء بالميناء تعكس جميعاً أسلوب التصوير المعاصر، وتترابط معاً بعلاقة وثيقة جعلتها على الرغم من انتسابها إلى عدد من الأنماط والمدارس المختلفة تحمل اتجاهاً في التصوير اصطلح مؤرخو الفن على تسميته "بالطراز القوطي الدولي" International Gothic Style. والهوية المميّزة لهذا الأسلوب هي الالتزام بقبس من التكلّف الذي يخضع الأشكال كافة - سواء أكانت أشكالاً آدمية أو نباتية أو صخوراً - لإيقاع أسلوب خطّي رشيق أنيق متأوّد ينهل رقّته من الروح الجمالية القوطية، بل حتى الموضوعات الدينية التي تشيع فيها النظرة التصوّفية نراها وقد غشّتها أحياناً مسحة غنائية دنيوية النكهة، إذ حاول الفنّان أن يحشد في لوحاته العديد من القصص الديني الذي تأخذ الأدوات والثياب والعادات فيه ملامح العصر الذي صوّرت فيه، مضفياً بهذا على الفن الديني صبغة إنسانية. كما صحب ذلك إسراف في الاتجاه إلى تصوير الموضوعات الدنيوية كالصيد والطراد والفلاحة ومناظر الحضر، فقدّم المصورون روائع أنيقة فيها إفراط في التكلّف يجاري مباهج الحياة اليومية.ولكي نصل إلى جذور هذه الحركة لا مناص من تتبّع تاريخ الأسلوب القوطي في تصاوير العصور الدنيوية، لا سيما فنون البلاطات في تلك الفترة. ومن المعروف أنه كان ثمّة إنتاج غزير للفن الدنيوي خلال العصر الكلاسيكي يشمل تصوير المناظر الطبيعية ووقائع الحياة اليومية والطبيعة الساكنة والموضوعات التاريخية والمعارك الحربية إلى غير ذلك، لجأ الفنان فيها إلى الإيهام بالواقعية من خلال استخدام الضوء والظل للإيحاء بالبروز والعمق، غير أن غزو برابرة الشمال سرعان ما قضى على هذه المناهج. وعلى الرغم من عدم احتفاء الدين المسيحي في أوروبا بالموضوعات الدنيوية فلم يتوقّف تصوير الموضوعات التاريخية قط، إذ استخدم التصوير لتدعيم سلطات الأباطرة سواء في الغرب أم في بيزنطة، وكذا للإعلاء من شأن الأسر الحاكمة في الماضي والحاضر. وفي مثل هذا النوع من التصوير شاعت "النزعة الطبيعية"(55) Naturalism النزعة الطبيعية هي التمثيل لمظاهر الطبيعة على صورة أقرب ما تكون من الواقع المرئي على الرغم من أن الموضوع قد يكون مثالياً أو خيالياً، وهي بهذا تختلف عن النزعة الواقعية Realism التي يلتزم فيها الفنان بما هو معاصر له. ويطلق هذا المصطلح على سائر المحاولات التي تقوم بها المدارس الفنية المختلفة للتعبير عن الطبيعة بعد تأملها تأملاً دقيقاً مستفيضاً دون الخروج عن إطارها. (م.م.م.ث). ، ووجدت لها متنفّساً جديداً في المراسم البيزنطية وأديرة عهد شارلمان في الوقت نفسه الذي دأب فيه اللاهوت المسيحي - الذي كان في صراع ضار ضد تراث الفكر الكلاسيكي - على تقويض قيم الحياة الدنيوية. ولقد كانت ثمّة "عهود نهضة" أيضاً في الفن البيزنطي بل وفي إمبراطورية شارلمان الشاسعة، تشهد بها الجهود الثقافية الدؤوبة لزعيمها والنشاط العالمي المتحرر من النزعات القومية في أديرتها. وإذا كان الزمن لم يحفظ لنا من الزخارف الدنيوية في قصور شارلمان شيئاً، إلا أننا نلمس صداها فيما جاء على ألسنة الأدباء من وصف لتلك اللوحات التي تصوّر أمجاده العسكرية، إذ كما كانت آداب الفروسية وأشعار التروبادور تشيد بنظام الإقطاع خلال العصر الرومانسكي، كذلك كانت اللوحات التي تزيّن القصور والقلاع سواء أكانت صوراً جدارية أم نسجيات مرسّمة تصف هي الأخرى المعارك الحربية وما إليها من صيد وطراد، فنسجية بايو (1080) لا تبعد كثيراً عن هذا الاتجاه إذ أن أسلوبها السردي القصصي المُترع حيوية، ثم عنايتها الشاملة بكل مظاهر الحياة المعاصرة، هذا وذاك يكشفان عمّا كانت تبلغه المبالاة بالحياة الواقعية من عمق.ومع نهاية القرن الثاني عشر طرأت على الصيغ التجريدية للنحت والتصوير الرومانسكي ومضة حياة، فما من شكّ في أن أفكار القدّيس برنار (1090 - 1153) والعقلانية النقدية لأبيلار (1079 - 1142) قد ساعدتا على تمهيد الطريق نحو تصوير الحياة اليومية. ولم يمض وقت طويل حتى فاجأنا القديس فرنسيس الأسيزي والقديس توما الأكويني (1225 - 1274) بزجّ الطبيعيات والدنيويات إلى المسيحية بدءاً بالنحت ثم بالتصوير، فمنذ القرن الثالث عشر زخرت حوافّ صفحات المخطوطات الإنجليزية والفرنسية بعالم من رسوم البشر والحيوان ذات روح فكاهية ساخرة موحية بقصص الحيوان الرامزة التي شاعت في العصور الوسطى خاصة "قصة الثعلب" الشهيرة Roman de Renard. ولا نزاع في أن هذا التعبير التصويري وذاك التعبير الأدبي نابعان من انصهار التقاليد الفرنسية والجرمانية في البوتقات الإنجليزية النورماندية وكذا بوتقات إقليم الفلاندر وحوض الراين، وكانت الظاهرة المهيمنة على هذا الاتجاه هي الحيوية المتدفّقة وقوة الخيال النابعة هي الأخرى من الخصائص النفسية لشعوب المنطقة، غير أنه ظهر في الوقت نفسه في أوروبا لون آخر من التصوير الدنيوي هو "أسلوب البلاط" الذي نشأ في فرنسا، وكان ابتكاراً كتب له الذيوع والانتشار والوفرة والعمر المديد. وكانت الملكية الفرنسية التي احتفظت بالكثير من تقاليد بلاط شارلمان متعجّلة في تبنّي المبادرات ذوات النفع السياسي أو التي تُعلي من زهوها وخيلائها، وهو ما حدث في عهد لويس التاسع [القديس لويس] في منتصف القرن الثالث عشر، إذ تكشف مخطوطات عهده عن شكل جديد غير معهود من أشكال الفن هو النقيض التام للفن الرومانسكي، ينبض بروح الأبّهة المتأنّقة والحيويّة المضطرمة التي تفصح عن احتياجات البلاط ومطالبه. فلأوّل مرّة في أوروبا بعد العصر الكلاسيكي يظهر قانون جديد لرسم الجسد الآدمي عمد الفنان إلى إطالته ليبدو رشيقاً، وتجسيمه بما يوحي بالحركة والقوة من وراء الأردية التي تنم خطوطها عن نهج حسّي، وبدت الإيماءات الأشدّ قُرباً من الحياة متساوقة مؤتلفة مع التكوين الفني والخلفيات المعمارية، فإذا نحولة الأجساد البشرية اللدنة تواكب الاندفاعة الرأسية للأعمدة والأبراج، وإذا الألوان تضطلع بدورها الزخرفي البحت، مما أفضى إلى توازن نموذجي بين ما هوَ مثالي وما هو واقعي، وبين الحسّ بالحياة وأسلوب التعبير عنها. وما لبثت بقيّة دول أوروبا أن انساقت في هذا الاتجاه وفي طليعتها الدول الواقعة شمالي الألب، وهكذا غدا "طراز البلاط الفرنسي" هو القاعدة التي قام عليها "الطراز الدولي" في التصوير القوطي، فأضفى معظم خصائصه على فن القرن الرابع عشر اللاحق ومستهل الخامس عشر. وقد صحب طراز البلاط هذا انتشار الموضوعات الدنيوية في كافة زخارف وتصاوير الحصون والقصور، التي وإن لم يبق لنا منها إلا أقل القليل، إلا أننا لا نلبث أن نلمس في الأوصاف الأدبية والشاعرية التي وصلتنا مدى ما بلغه الحماس نحو الفن الجديد. فيتحدّث كتاب "قصة الوردة" Roman de La Rose في الجزء الأخير منه الذي يرجع تاريخه إلى عام 1270 عن فن التصوير، ويمضي معدّداً موضوعاته المتنوّعة، مثل الفرسان المسلّحين لخوض القتال ممتطين صهوات الجياد المطهّمة ذات السروج الفاخرة فوق الجلول المزركشة بالرنوك الملوّنة بالأزرق والأصفر والأخضر، وكذا مختلف فنون الترويح عن النفس كالرقص الذي تشارك فيه غانيات حسناوات ترتدين أزياء بالغة الأناقة.واتجه النحت القوطي إلى إضفاء العاطفة الفيّاضة على الموضوعات التقليدية للفن المسيحي، الأمر الذي أفضى في نهاية القرن الثالث عشر إلى نوع جديد من الفن الديني صمّم خصّيصاً للتعبّد الفردي يشار إليه بالعبارة الألمانية Andachtsbild "أندكتسبيلد" وتعني تماثيل التعبّد، إذ كانت ألمانيا حريصة على تأدية دور قيادي في تنميته. وأبرز نمط لهذا الفن الديني وأكثره شيوعاً هو نمط العذراء الأسيانة Pieta [وهي كلمة إيطالية مشتقّة من كلمة Pietas اللاتينية، جذر كلمتي Pity بمعنى الشفقة أو الإشفاق وPiety بمعنى التقوى أو الورع]. وليس ثمّة ذكر لهذا المشهد على الإطلاق ضمن مشاهد آلام المسيح في الكتاب المقدّس، إذ هو مشهد ابتدع في زمان ومكان غير معروفين، باعتباره المقابل التراجيدي لمشهد العذراء والمسيح الطفل. وثمّة تمثال خشبي بمدينة بون (لوحة 96) يرجع إلى مطلع القرن الرابع عشر مطلي بألوان رفافة مبهرة، تتجلّى فيه الواقعية بوصفها وسيلة التعبير حيث تبدو على الوجوه سيماء الألم والأسى، وتغشّي الدماء جروح المسيح في مغالاة لافتة تكاد تصل إلى حدّ التشويه، أما الجسدان ففي نحافة الدُمى وقد خليا من الحيوية. وكان الغرض من مثل هذا التمثال وغيره هو الترهيب وإثارة المخاوف والشفقة في قلب المتأمّل حتى تتجاوب مشاعره مع مشاعر الحزن والأسى التي كابدتها مريم أم المسيح.ومنذ مطلع القرن الرابع عشر خطا التصوير الإيطالي بفضل جوتو ودوتشيو - كما رأينا - خطوة لا مثيل لها صوب النزعة "الطبيعية"، مما دفع الفنانين الإيطاليين إلى تذوّق النحت الكلاسيكي مثلما حدث لآل بيزانو - كما مرّ بنا - وكذا التصوير الكلاسيكي الذي كانت كثرة من نماذجه مبعثرة بين الأطلال المحيطة بهم، وإذا جوتو يخصّص مساحتين من صوره الجدارية بمصلى "الآرينا" للوحة تصوّر عقداً تتدلى منه ثريّا، وهو من الصيغ المتأغرقة القائمة على مخادعة البصر. كذلك تغلغلت نفس الاتجاهات في فنون مدينة سيينا عهد دوتشيو وتلميذه سيموني مارتيني، الذي استردّ في الموضوعات الكلاسيكية التي صوّرها النكهة الرعوية لتصاوير العصر الروماني، على نحو ما نرى في منمنمته بمخطوطة فرجيل المحفوظة بمكتبة الأمبروزيانا في ميلانو (لوحة 97) التي رسمها في عام 1340 لصديقه الأديب بترارك، ففلّاحوه ذوو الشعر الأشعث الذين يرمز بهم لقصائد الزراعيات [الفلاحة Georgics] والقصائد الرعوية Eclogues ينحدرون مباشرة من لوحات الفسيفساء الرومانية التي تمثل "الفصول الأربعة" بمتحف باردو في تونس، كما ينحدر البطل أينياس القوي المقتدر هو الآخر من لفيفة يوشع Joshua Roll البيزنطية من القرن العاشر على الرغم من تصفيفة شعره وأطواء عباءته القوطية. لقد أودع سيموني في هذه الصورة كل مهارته ومكنون رصيده الثقافي من تراث إيطاليا الكلاسيكي وما ارتشفه من الفن القوطي. وكان سيموني مارتيني قد تشبّع في صباه وهو في سيينا ونابلي بالأسلوب الفرنسي بأزيائه ذات الأطواء الإيقاعية وحوافّه المحوّطة المحدّدة المسرفة في انحناءاتها، فظفر أسلوبه بترحيب يفوق ما ظفر به أي فنان إيطالي آخر في فرنسا وبرجنديا. من أجل ذلك كلّه عدّ مؤرخو الفن هذه المنمنمة أولى مراحل تطور الأسلوب القوطي الطولي والبشير ب "كتاب الساعات الفاخر الترقين الذي أعدّ للدوق دي بري" للإخوة لمبروج. وحين شرع سيموني يمزج بين الأسلوب المتكلّف للبلاط الفرنسي وبين الواقعية(56) Realism هي نقل المظهر الطبيعي بأمانة دون إسراف في الدخول إلى التفاصيل الدقيقة، وتعدّ في الفن بصفة عامة على النقيض من المثالية Idealism أو هي بعبارة أخرى تمثيل الحياة اليومية كما هي على صورتها التي تبدو بها وليس في صورة الكمال الذي يتخيله الفنان عنها. (م.م.م.ث). الإيطالية الجديدة، جاعلاً هذا المزيج الفرنسي الإيطالي بمثابة "الفن الحديث" وقتئذ عُدّ عمله هذا المرحلة الثانية في تطوير الطراز القوطي الدولي.
ولقد تسلّل التأثير الإيطالي منذ مطلع القرن الرابع عشر إلى قلب مملكة فرنسا، حين بدأ الفنانون الإيطاليون يعملون لدى فيليب الطيّب ملك فرنسا، كما عرضت الصور الإيطالية للبيع بباريس منذ عام 1328. ومع أن الفنان جان بوسيل Jean Pucille قد حذا حذو جوتو ودوتشيو في رسم المنظور(57) Perspective هو تمثيل الأشياء ذات الأبعاد الثلاثة على سطح ذي بُعدين فتبدو وكأنها نافذة إلى العمق (م.م.م.ث). ، إلا أنه ظل قوطياً وفرنسياً قحّاً. وفي نهاية القرن الرابع عشر، وفي مراسم دوق دي بري اكتسبت أعماله شهرة واسعة، ويمكن استكناه لبّ أسلوبه مباشرة من أسلوب الإخوة لمبورج Limbourg، ولذا فليس من العدل إنكار الدور الهام الذي كان لبوسيل في تطوير الطراز الدولي، وهو تطعيم الأسلوب الفرنسي التقليدي بنهج جديد أورثه لجيل المصوّرين الذين كانوا يعملون حوالي عام 1400.ومن ناحية أخرى لم تكن للمصوّرين الفلمنكيين تقاليد قومية تحول بينهم وبين انتهاج أسلوب الفن الإيطالي، فإذا هم يحتذونه منذ تاريخ مبكر نظراً للصلات الوثيقة بين مجتمعهم البورجوازي وبين دويلات المدن الإيطالية، وكذا لما فطروا عليه من أخذ بالواقيعة. ومن هنا نجحوا في إرضاء رعاة الفن الفرنسيين في النصف الأول من القرن من خلال واقعيتهم المعاصرة التي أجّجها الفن الإيطالي في نفوسهم، وإن جنحت بهم قوطيّتهم وميول رعاتهم إلى الالتزام بالإطار الجمالي للفن الفرنسي.والراجح أن الفنانين الفلمنكيين الذين كانوا في خدمة دوق دي بري هم الذين وضعوا الأساس الفعلي للطراز الدولي القوطي، وذلك بجمعهم بين الأسلوب الفرنسي التقليدي والأسلوب الواقعي الإيطالي، بما يناسب تفسيرهم لفن التصوير. وابتداء من اللحظة التي ظهرت فيها التحف التصويرية للأستاذ بوسيكو Boucicaut Master (لوحة 98، 99) وللإخوة لمبورج أخذ الفن الفرنسي الفلمنكي يحدّد مسيرة الطراز الدولي. وقد تبدو هذه الإطلالة منقوصة لو تجاهلنا عنصراً آخر جديداً وافداً من إيطاليا، إذ توصّل مصورو سيينا وفلورنسا في عام 1340 متأثرين بنماذج التصوير الكلاسيكية التي بين أيديهم إلى إعادة اكتشاف أنماط التصوير الدنيوي، من طبيعة ساكنة(58) Still life رسم أو تصوير مجموعة من الأشياء الساكنة الهامدة كالثمار والأزهار والسمك أو الطير الميت والأدوات المنزلية إلى غير ذلك (م.م.م.ث). ومناظر طبيعية ومشاهد الحياة اليومية،(59) Genre Painting هي ما يُصوّر نقلاً عن الحياة اليومية في شتى ميادينها داخل البيوت أو خارجها (م.م.م.ث). فإذا تاديو جادي (1337) Taddeo Gaddi يصوّر مشهد طبيعة ساكنة ذا موضوع ديني بكنيسة سانتا كروتشي بفلورنسا، وفي الوقت نفسه رسم سيموني مارتيني صورته الإيضاحية الشديدة التأغرق لمخطوطة فرجيل، على حين تكشف لوحات أمبروزيو لورنزتي الجدارية في قصر البلدية عن صورة مدينة سيينا والريف المحيط بها في واقعية شديدة، حتى لقد تمثّلت فيها كل أنشطة المدينة وما حولها (لوحة 99، 100). ومن العسير إنكار أثر هذه اللوحات الجدارية التي كانت تُعرض على الناس في مبنى عام في واحدة من أهم المدن الإيطالية. ولا شك في أن مثل اللوحات هي التي أرهصت بما جاء منها من صور مخطوطات "كتب الساعات" أو "صلوات السواعي الفاخرة الترقين" للإخوة لمبورج وغيرهم إذ ما لبثت الكنيسة المسيحية أن اتبعت الأعراف الرومانية القديمة والتقاليد الدينية اليهودية فأرست قواعد محددة لتلاوة الصلوات والأوراد كما حددت مواقيت الصلاة والشعائر، وما لبث المؤمنون من عامة المسيحيين أن اتبعوا خطى الكنيسة فتطلعوا إلى أن تكون لهم بالمثل كتب صلاة خاصة بهم وأن يلزموا أنفسهم ببرامج الصلوات الكنسية. وهكذا أصبح العامة يقتنون كتب "الساعات" أو صلوات السواعي "Book of Hours" التي نأت أصلاً كأحد العناصر المستخدمة في طقوس الكنيسة ثم إذا هي تغدو ذات "قيمة مرتفعة"، إذ أصبحت بتنوع إخراجها الفني ترمز إلى المكانة الإجتماعية لمقتنيها بعد أن غدت تحفة ضمن مقتنيات المخطوطات الثمينة، يجتمع فيها الدين والفن والدنيا في وحدة متآلفة هي سرّ الجاذبية التي تتبدّى لنا اليوم، فذاعت شهرتها بوصفها أنفس المخطوطات المرقّنة خلال العصر القوطي. وبعد قرون تعرّضت فيها هذه المخطوطات للتدمير والتلف والضياع بقيت لنا قرابة ألف من كتب "الساعات" لا بالمتاحف ودور الكتب والمقتنيات الخالصة فحسب بل وفي الأسواق حيث يمكن للأثرياء من الهواة وجامعي التحف شراء مخطوطة كاملة أو بضع صفحات منها. ويبدأ كتاب الساعات بتقويم لبيان مواعيد الأعياد الدينية على مدار السنة، ويعقب هذا التقويم مختارات من الأناجيل الأربعة، وعادة ما يزيّن التقويم بصور تبيّن ما يختص به كل شهر من أعمال وأحداث فضلاً عما يصحبه من علامات البروج ببيان برج كل شهر. ويحتوي "كتاب الساعات" فضلاً عما يحتويه من منمنمات وترقينات على موضوعات دينية ثلاثة للصلوات والطقوس،(60) يحتوي كتاب الساعات [أو صلوات السواعي] Book of Hours فضلاً عما يحتويه من ترقين ومنمنمات على موضوعات ثلاثة: أولها نص أساسي والثاني ثانوي والثالث إضافي. والموضوع الأساسي مأخوذ من كتاب الفرض Breviary (الصلوات اليومية) ويشمل التقويم Calendar وصلوات للسيدة العذراء Hours of the Virgin ومزامير التوبة Penitenial Psalms والأوراد Litanies وصلوات للموتى Office of the Dead والصلوات للقديسين Suffrages of Saints. ويضم الموضوع الثاني مقاطع من الأناجيل الأربعة Sequences of the Gospels وتشمل آلام المسيح كما يرويها القديس يوحنا في إنجيله، وصلاتين خاصتين بالعذراء نالا شهرة واسعة، وإحداهما صلاة الطلبات Obsecro te (Iimplore thee) والثانية صلاة للسيدة العذراء المعصومة الطاهرة من الدنس O intemerata (O matchless Spirit)، فضلاً عن صلوات للصليب Hours of the Cross وللروح القدس وللثالوث المقدس Holy Trinity. أَما الموضوع الثالث فيتضمن إضافات هي منتخبات من المزامير ومن الصلوات المختلفة. (م.م.م.ث). وليس ثمة تشابه بين كتاب للساعات وآخر إلا بالنسبة للتقويم الذي يتصدّر الكتاب محدّداً أيام أعياد الكنيسة وأعياد القديسين. ونبدأ مداخل الفصول بتدبيجات بألوان مختلفة من الذهبي والأحمر والأزرق، التي كانت بالإضافة إلى إسباغ التألّق على الصفحات لها هدف وظيفي، حيث تكتب الأعياد الهامة كعيد ميلاد المسيح وعيد الفصح بالمداد الذهبي والأحمر، على حين تكتب أعياد القديسين المحليين بالمداد الأزرق. وكان الغرض الأساس من كتب "الساعات" هو تزويد المؤمنين من غير رجال الدين بدءاً من الملوك والأمراء وانتهاء بسكان المدن الأثرياء هم وزوجاتهم بكتب صلوات شخصية. وكان اقتناء كتاب من هذه الكتب أمنية كل المتعلمين وبعض الأميين، فإلى جانب تلك النسخ الثمينة بالغة الروعة أنيقة الزخارف والرسوم كانت ثمّة ألوف من النسخ الهيّنة الزخارف والرسوم لها الأثر الأول في إشاعة المساواة بين المسيحيين على أوسع نطاق، وإن تكن قد اندثرت جميعاً، وهكذا كانت كتب صلوات السواعي هي النموذج الأمثل للجمع بين العقلانية المسيحية والورع الديني الشعبي. وقد ذهب الحرص على اقتناء هذه الكتب إلى الحد الذي شاع معه أنها تمثّل غرور صاحبها أكثر مما تمثّل ورعه وتقواه، وإن يكن أولى بنا أن نحذر الأخذ بمثل هذا الزعم، لأن الورع صلة خفيّة بين الإنسان وربّه. ولقد جرّ استخدام كتب الساعات على نطاق واسع إلى اهترائها، فتآكلت قشور أغلفتها الجلدية وضاعت صفحات التقويم الاستهلالية وتلطّخت أطراف صفحاتها بأثر البصمات وبقع الشمع المتساقط، كما تكشف مطالعة الوصايا وقوائم حصر التركات عن أن كتب الساعات كانت تعتبر من أنفس المقتنيات وأهمها، فلقد كانت تكاليف إعدادها الباهظة لها أثرها في ارتفاع أثمانها. وكانت أكثر المناسبات ملاءمة للحصول على كتاب "الساعات" هو الزفاف حين يمنح الزوج عروسه نسخة منه. كذلك كانت هذه الكتب تستخدم علاجاً للشفاء من الأمراض إلى جانب وظيفتها الروحانية والفنية والترويحية، فأصبح اقتناء بعض هذه الكتب مقصوراً على طلب الشفاء من مرض ما بعد أن تكون قد شاعت قدرة أحد القديسين المذكورين فيها على شفاء هذا المرض.وأشهر كتب الساعات هو "كتاب صلوات السواعي الفاخر الترقين الذي أعدّ خصّيصاً لجون دوق ده بري" Tres Riches Heures duc Berry، ويشكّل بحقّ تحفة فنية في دنيا المخطوطات المرقّنة، صوّره بول لمبروج Pol Limbourg وشقيقاه، وكانوا قد انكبّوا على إنجازه منذ عام 1413، وعاجلت المنيّة دوق ده بري في عام 1460 قبل فراغهم منه. وجاء في قائمة حصر تركة الدوق في وصف هذا المخطوطة النادرة: "إنه كتاب لصلوات السواعي شديد الفخامة يضم ترقينات ومنمنمات وصوراً وزخارف غاية في الروعة نفّذها بول وأخواه"، وقد توفّي الإخوة الثلاثة في نفس السنة فجأة في حادث أو ربّما إثر وباء، وكانوا جميعاً في العشرينات من عمرهم.وتحفل المخطوطة بمشاهد تشغل صفحات كاملة لأفراد الحاشية من سيّدات ورجال في حفلاتهم وولائمهم وفي صيدهم وطرادهم، وللفلاحين وهم يكدحون في حقولهم المتاخمة للقلاع والحصون. وتجلو لنا هذه المشاهد المتنوّعة مدى اختلاف اهتمامات البلاط باختلاف المواسم على مدى العام، كما تكشف عن تفاصيل الحياة اليومية لبلاط الدوق ده بري من شهر إلى آخر. وفي محاولة من المصوّرين لالتزام المقاييس والنسب والأحجام رسموا الحقول وهي تضيق كلما أوغلت عمقاً والشخوص وهم يتضاءلون حجماً كلّما ابتعدوا ونأوا (لوحات 101، 102، 103). ولقد شُغل الفنانون في كافة أنحاء أوروبا بهذه الصور التفصيلية الأنيقة التي تجمع مباهج فيها غلو وإسراف يرضي الأمراء والموسرين، كما كانت مجالاً لإشباع رغبات الفنّانين وطموحهم، فإذا هذه الحقبة تشهد ازدهاراً شديداً في فن التصوير حيث استخدم الفنانون فرشاة دقيقة مدبّبة وأصباغاً برّاقة تدخل في تركيبها الأحجار المسحوقة والأصداف والمعادن وثمار التوت. وكانوا مطلقي الأيدي في رسم الأطراف الرشيقة والملامح الوسيمة والثياب الأنيقة المزوّقة بالحليات الملونة، كما مضوا يتلمّسون طريقهم نحو الإيهام بالواقع في أنحاء الصورة، غير أن هؤلاء الفنانين الذين كانوا يجهلون كل ما له صلة بالتصوير الكلاسيكي لم يحاولوا البتّة تحقيق هذا الإيهام على غرار الفنانين الإغريق والرومان من خلال لمسات الفرشاة الغائمة والظلال المائعة، لكنّهم شغلوا بتصوير المناظر الطبيعية ممتزجة بتصاوير الشخوص يشكلونها على غرار لوحات الفسيفساء.وتعدّ فريسكات لورنزتي أهم نماذج الفن الدنيوي في إيطاليا خلال القرن الرابع عشر، كما أن واقعيتها تفوق أعظم ما قدّمته التصاوير شمالي الألب في هذا المجال، ومردّ ذلك إلى أن لورنزتي قصد أن يلتقط جوهر الأشياء الواقعية متجنّباً التكلّف المفرط للفن القوطي.وقد أثمرت واقعية لورنزتي المنطقية ظهور فنّانين يحذون حذوه في شمال إيطاليا بلومبارديا والبندقية وغيرهما، فقدّم مصورو المنمنمات اللومبارديون مشاهد ريفية ذات واقعية مذهلة، وصوّر غيرهم الظلال المنسابة، وتناول آخرون الوجوه بأسلوب النحت إلى أن انتهى الأمر بهذا الاتجاه إلى تصوير مشاهد ذات منظور واقعي نابضة بالحياة تبزّ أيّة تصاوير أوروبية تسبق الفنان روبرت كامبين Robert Campin المعروف باسم "أستاذ فليمال" والأخوين فان إيك Van Eyck كما سنرى. كذلك قدّم بعض المصوّرين اللومبارديين دراسات رائعة لصور الحيوان تُعدّ إرهاصة بأعمال الإخوة لمبورج ومن خلفهم من كبار المصورين الفلمنكيين برؤاهم الجديدة للعالم من حولهم، حيث تتجاوز المشاهد داخل الدور أو في الخلاء - لكل من "أستاذ بوسيكو" والإخوة لمبورج - تصاوير المصورين اللومبارديين في مجالي تمثيل المنظور والبيئة المعاصرة وقتذاك، ومن هنا كان التصوير "الفرنسي - الفلمنكي" حوالي عام 1400 شديد الصلة بالفن اللومباردي. وتذكر الكثير من قوائم حصر المجموعات الفنية الفرنسية بين الحين والحين أعمالاً لومباردية، فضلاً عن الصلات السياسية والعائلية الوثيقة بين آل فيسكونتي Visconti حكام ميلانو والأمراء الفرنسيين وكذا لم تكن الصلات الفنية بينهم أقلّ إحكاماً وقرباً. وكان أكثر ما شدّ إعجاب المصوّرين الإيطاليين في أعمال مصوري الشمال هو أسلوب الخطوط المنحنية curvilinear ونماذج المسنّين المُلتحين والعذراوات النحيلات والثياب البرجندية الباذخة والأناقة المهندمة، وفي إيجاز كل غرائب العالم العجيب المصورة تصويراً متنوعاً خلاباً والذي كان يعدّ في جنوبي الألب نموذجاً قوطياً إكزوتياً(61) Exoticism الشغف بكل غريب غير مألوف وافد من بلد ناء، وذلك لما يتصف به من استغراب لكل ما هو مجهول يجذب النفوس، أو هو التعلّق بكل ما يمتّ للخيال الرومانسي المستجلب بسبب. (م.م.م.ث). غنائياً. وهو أيضاً ما يفسّر ولع مصوري شمال إيطاليا بالتشكيلات الخطّية(62) linear التشكيل الفني الذي يعتمد في تأثيره على المُشاهد على الأشكال المكونة بالخطوط أكثر من اعتماده على الكتل اللونية والتظليل (م.م.م.ث). والسرد القصصي المصور، فبلغ الطراز الدولي في شمال إيطاليا أوجه في المغالاة في الزخرفة والخيال حتى غدت خطوطه متحوّية متموّجة متجاورة كألسنة السعير، ومن هنا جاء وصفها بالمتوهّجة Flamboyante. وقد امتدّت هذه المرحلة طويلاً لا سيما على يد الفنان بيزانللو Pisanello الذي قضى نحبه عام 1455، غير أن انشغال الفنانين المتّصل بملء ما يقع بين أيديهم من أسطح مستوية وشغفهم بالتشكيلات الخطية لم يرق بتصاوير هذه المنطقة على الرغم من واقعية تفاصيلها إلى المستوى نفسه الذي كان سائداً في بقيّة أنحاء إيطاليا حيث كان يعمل مازاتشيو وأوتشيللو. ومع ذلك حافظت هذه المرحلة على ازدهارها في بلاطات أمراء الأقاليم حيث كانت شهرة بلاطات دوق ده بري ودوق برجنديا والملك شارل السادس ما تزال ذائعة طاغية، فقد كانت هي المنبع الذي فاض منه الأسلوب الفلمنكي فعم أوروبا بأسرها حوالي عام 1390. وبهذا تكون خصائص هذا الأسلوب قد نشأت في فرنسا، وكانت أهم منابعه وأصوله مان سور إيفر Mehun sor Yevre وبورج Bourges حيث أنشأ جون دوق ده بري مرسماً خصيصاً للمخطوطات المرقّنة، وحيث عمل الفنان جاكمار ده هسدان Jacquemart do Hesdin (لوحة 104)، وديجون في المرسم الذي أنشأه فيليب الجسور، وأخيراً في باريس نفسها حيث ظهر مصورون محترفون خالصو النسب الفرنسي وإن كان إلى جوارهم أيضاً فنانون فلمنكيون على مستوى رفيع. على أنه لم يكتب للمنمنمات الباريسية وجودها الذاتي غير متأثرة بغيرها إلا بعد عام 1400 على يد "أستاذ بوسيكو". وقد اصطبغ الأسلوب "الفرنسي - الفلمنكي" في كل دولة أوروبية بصبغة قومية، ففي لومبارديا حمل الطابع القوطي كما قدّمت، وشهدت بوهيميا نشاطاً تصويرياً عظيماً متأثّرةً بِالأسلوب "الفرنسي - الفلمنكي" في منتصف القرن الرابع عشر حيث تزاوجت الاتجاهات الإيطالية الحديثة بالتأثيرات الجرمانية وبالطراز القوطي الأصيل، وكانت رعاية الفن في النمسا تتولّاها الأسقفيات والأديرة أكثر من البلاطات باستثناء فيينا، وإن كان الأسلوب الدولي أقلّ انتشاراً. وأغلب الظن أن الأسلوب "الفرنسي - الفلمنكي" قد وصل إلى النمسا وبوهيميا عبر العلاقات الوثيقة بين البلاطات، كما ذاع في حوض الراين لمتاخمته للأراضي الواطئة ولفرنسا على السواء. وسرعان ما حاكت الطبقة الأرستقراطية والطبقة الوسطى الناشئة التي غدا لها نفوذها وتأثيرها طراز بلاطات الأمراء الذي كان المركز الفني بمدينة ديجون مصدر إشعاعه وانتشاره. وهنا في ديجون بدأت اللوحات المصوّرة على الحوامل [أعنى اللوحات القائمة بذاتها] - مثلما كان الحال في المدن الإيطالية - تحلّ محل المنمنمات فأخذت هي ولوحات الهياكل التي كانت تزيّن الدور والكنائس تشيع بين الناس ويتقبّلونها بقبول حسن مع مستهل القرن الخامس عشر. أما فنانو الراين فقد مزجوا بين أناقة الطراز القوطي وبين مرونة ورقّة "الأسلوب الهادئ" Soft style ذي التوافقات الرقيقة والجمال اللطيف والشخوص الوديعة، وكان أهم فنّانيه من مدرسة كولونيا، فأدّت رهافة هذا الأسلوب إلى ابتداع أعمال فنية لها رقّة الأحلام. وأعقب ذلك مدرسة الواقعية الحادة التي سمّيت مدرسة "الأسلوب الصارم" Hard style بزعامة كونراد فيتز Konrad Witz والتي تتجلّى فيها المشاهد أشد ما تكون وضوحاً وإبانة.
وفي إنجلترا حيث كانت ثمّة ندرة ملحوظة للوحات المصورة القائمة بذاتها تسترعينا لوحة ولتون ذات الضلفتين(63) Diptych لوحة ثنائية مصوّرة ذات ضلفتين أو مصراعين قابلتين للطيّ مفصلياً (م.م.م.ث). (1396) كأحد أكثر اللوحات المصوّرة إثارة للجدل والخلاف بروعتها الخارقة للعادة، فنرى مصوّرها يتخم سطح لوحته الخشبية بالتذهيب لتبدو في أبّهة الأيقونات البيزنطية، كما تلفتنا عنايته البالغة والدقيقة بنقل تفاصيل الوجوه والوضعات، ويتجلّى ذوقه الإنجليزي في رسم شخوصه على وجه بالغ الأناقة (لوحة 105)، فنرى فوق إحدى الضلفتين الملك ريتشارد الثاني يقرّبه إلى العذارء والمسيح الطفل القدّيسان الشفيعان له، ونرى فوق الضلفة اليسرى الملك راكعاً من ورائه يوحنا المعمدان والقديس إدوارد المعترف والقديس إدموند الملك الشهيد.أَما فنانو الأراضي الواطئة الذين تخلّفوا قليلاً لبُعدهم عن مراكز الحضارة فهم وإن كانوا مفعمين بحيوية دافقة تشوبها بعض الخشونة، فلم يعرفوا روائع الفنانين الفلمنكيين بفرنسا إلا من خلال بعض الأصداء التي وصلت إليهم من هناك وعبر بلاطات الأمراء في بلادهم، وهكذا نشأت المدارس الفنية في جلدرلاند Gelderland وليييج وماسترخت حيث ابتُدعت تركيبة مؤلّفة من العناصر الفلمنكية وعناصر حوض الراين. وتلك هي المرحلة الأخيرة للطراز الهولندي الدولي المرهصة بفن فان إيك. وفي الوقت نفسه كان فنانو المراكز الفنية التي أقامتها الطبقة الوسطى في أوترخت وبروج وجنت Ghent يستخدمون الأسلوب الفرنسي بلا حرج أو صعوبة. ومنذ نهاية القرن الرابع عشر ظهر تأثير الأسلوب "الفرنسي - الفلمنكي" في إسبانيا، فلقد كان إقليم قطالونيا شديد الصلة بفرنسا عن طريق تزاوج الأسر المالكة، فضلاً عن تأثير المركز الفني الفرنسي الموجود بأفنيون المجاورة، وكانت ثمّة شبكة من الطرق التجارية عبر البحر المتوسط تربط برشلونه وفالنسيا بمرسيليا وجنوا ونابلي وباليرمو والبندقية، نشأت معها إلى جانب العلاقات التجارية صلات فنية، وهو ما يفسّر التشابه بين تصاوير جنوب إيطاليا وإسبانيا وقتذاك. وظل "الطراز الدولي" مزدهراً في معظم هذه البلاد في الوقت الذي أخذ يضمحل فيه بفرنسا حيث كان لحروب المائة عام أثرها المدمّر على فن التصوير، ومع ذلك ارتقى "أستاذ روهان" Rohan Master بفن التصوير إلى أعلى المراتب، فلقد استطاع أن يرمز بخطوطه الأرابيسكية(64) Arabesque الخط الرشيق المتأوّد المتسق المنغّم (م.م.م.ث). إلى معان صوفية تباين الأساليب التكلّفية الشائعة (لوحة 106) وكانت منزلة هذا الفنان في تاريخ الفن القوطي الدولي تشبه منزلة الفنان إلجريكو الذي ذاع صيته في ختام النزعة التكلفية الباروكية إبّان عصر النهضة، فقد أضفت ومضات بصيرته عمقاً إنسانياً بالغاً على فن كان مقصوراً على الانفعالات الدنيوية الهيّنة.
ويرجع سبب انبثاق هذا الطراز الفنّي من فرنسا إلى بقية أنحاء أوروبا إلى أن فرنسا وبرجنديا تقعان على الطريق التي يعبر بهما إلى أهم مركزين اقتصاديين في أوروبا وهما شمال إيطاليا والأراضى الواطئة. وعلى حين كانت فرنسا تتمتع بالتفوّق الفكري لأنها كانت تضم جامعة باريس العلمانية، كانت برجنديا تمثّل نموذجاً لحضارة فرنسية - فلمنكية أفادت الكثير من الروح التجريبية للطبقة الوسطى الهولندية. ونتيجة لكون الحضارة الفرنسية - الفلمنكية حضارة مختلطة فقد أصبح ميسوراً أن يتقبّلها كل من اللاتين والجرمان، فعلى حين أعجب اللاتين بأسلوبها التكلّفي الأنيق الذي طوّع الطبيعة، أعجب الجرمان بواقعيّتها وروحها الصوفية، هذا إلى أن كلّاً من فرنسا وبرجنديا كان لها بلاطها الملكي الوقور.وبهذا كان المجتمع الأرستقراطي الأوربي في نهاية القرن الرابع عشر أسرة دولية واحدة لها فروع في شتّى أنحاء القارة، كما دخل الفنانون الذين تحرّر معظمهم من قيود النقابات المهنية في خدمة الأمراء يتنقلون في سائر أرجاء أوروبا من بلاط إلى آخر، ومن هنا كان من المحتم أن تفضي هذه العوامل إلى فن موحّد متجانس. وهكذا قدّمت فرنسا التي انبعثت منها العمارة القوطية وآداب بروفنسا Provencal بلغة (لانج دوك Langue dOc) موسيقى (الفن الجديدانظر "الزمن ونسيج النغم. من نشيد أبوللو إلى تورانجاليلا" لصاحب هذه الدراسة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. الطبعة الثانية 1996. ) Ars Nova على أيدى فيليب دي فيتري وجيوم ده ماشو إلى "عصر الفروسية" فناً طال التشوّق إليه هو "فن تصوير البلاط". ومع اضمحلال عصر الفروسية في نهاية القرن الرابع عشر، بدأت طبقة الفروسية تنظر نظرة نافذة ناقدة لأسلوب الحياة الذي كانت تنتهجه، وبعد أن اطمأنت شيئاً من الاطمئنان نزلت إلى الطبقة الوسطى وتحالفت معها درءاً لنشوب الثورات في أوروبا، لكنها مع ذلك لم يهدأ لها بال إزاء الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الجديدة. وعلى الرغم من كافة هذه الاعتبارات التي تهدّد كيانها ظلت سادرة في تقاليدها وأهوائها وعاداتها، منجذبة إلى الخيال في مجالات الشعر والتصوير والموسيقى التي استخدمتها للإعلاء من شأن أسلوب حياة الفروسية. وما لبثت بوليفونية "الفن الجديد" الموسيقى - إلى جوار التصوير - التي برع فيها جيوم ده ماشو أن غدت أبلغ تعبير عن هذا الاتجاه، وسرعان ما ظهرت إثرها القصائد الشعرية المتكلّفة هي الأخرى. وهكذا عبّر الشاعر والموسيقي والمصوّر بما يبدعون عن رغبات النبلاء والفرسان وميولهم، كما عبّروا عن أحلام سيّدات القصور اللاتي شببن على قصص شعراء التروفير المتجوّلين(65) Trouvere الاسم الذي كان يُطلق في العصور الوسطى على الشاعر المتجول بشمال فرنسا. وكانت موضوعات التروفير تتراوح بين العشق الرفيع على نحو ما كان يفعله التروبادور في جنوب فرنسا وبين أساطير الفروسية والبطولة (معجم مصطلحات الأدب. د. مجدي وهبه). في شمال فرنسا بلغة لانج دوي (Langue d oil) والتى غدت نواة للغة الفرنسية الحديثة، والتى كانت تعرض للعشق الرفيع ولأساطير البطولة والفروسية، فلا تقع عيونهن إلا على ما تتيحه لهن تلك الإطلالة من بروجهن الشاهقة. وقد يكون من العسر بمكان اليوم تقويم ما كان لنساء القصور من أثر في مجتمع العصور الوسطى وفى أخيلة الرجال وعواطفهم ومثلهم العليا، لا سيما فيما يتصل بطبقة النبلاء، فكانت المرأة هي التي تتولى تنشئة الصبية حتى يبلغوا سن الخُلُم. ومنذ القرن الحادى عشر كان ثلاثة أرباع الشعر الدنيوي والموسيقي تؤلّف من أجل النساء، وإذا بالتصوير أيضاً يلحق بهما في هذا المجال. كذلك شاع الميل نحو الشعر الرعوي والتغنّي بالبساطة الريفية المترعة بالثراء المترف وبلمسة متوارية من الإثارة الجنسية، وهو ما يجعل ثمّة تشابهاً بين مجتمع القرن الرابع عشر وفنّه من ناحية ومجتمع طراز الروكوكو الفنّي خلال القرن الثامن عشر من ناحية أخرى. غير أن هذا لم يكن وجه التشابه الوحيد، فكلاهما خضع لأنواع مختلفة من سحر التكلّف والاصطناع، منها الالتزام بالأسلوب المتحذلق الذي يتّفق ومزاج الناس وقتذاك، فعادة ما تأخذ النزعة التكلّفية مكان الصدارة في فنون مجتمع الصفوة الذي غالباً ما يمتدّ به العمر في أوقات الأزمات الروحية.والنزعة التكلّفية تواجه النزعة الطبيعية لكنها لا تباينها مذهباً فنّياً، فهي متكلّفة لأنها ليست طبيعية، وهي على الرغم من تكلّفها لا تعرض في مضمونها لحقائق النفس الذاتية ولا لأحداث العالم الخارجي، ومن ثم كان تكلّفها هو في أسلوب الأداء أكثر منه في اختيار الموضوع المطروق. على هذا النحو استخدم أصحاب النزعة التكلّفية خلال القرن الثامن عشر - كما سنرى - كل مبتكرات عصرهم من طبيعة ساكنة ومناظر طبيعية ومشاهد مستقاة من الحياة اليومية وصور للحيوانات وإضاءة صناعية، مواكبين بدورهم مصوّري المنمنمات الفرنسية - الفلمنكية الذين صوّروا هم الآخرون النبلاء والفلاحين والريف والحيوانات وأدوات الحياة اليومية، كما صوّروا لأوّل مرة المشاهد الليلية. ولا نزاع أيضاً في أن العناصر الواقعية التي انطوى عليها الأسلوب الدولي كانت البشير بواقعية فان إيك. وإذا نظرنا إلى هذا الأسلوب لذاته يتبين لنا أنه النقيض التام للفن الساعي إلى محاكاة المشاهد بطريقة موضوعية، وأن هدفه الحقيقي إسباغ رؤية سحرية على العالم المصوّر، وإن بذل الفنان جهده كي يجعلها تبدو طبيعية باستخدام ما يقع عليه الحس من محسوسات، فكما يمكن للحلم أن يُثير رعبنا، يستطيع أيضاً أن يطلّ بنا على مباهج حياة واقعية سما بها الفنان إلى مستوى مثالي يكسبها كمالاً مغرقاً في الخيال. وفي مثل هذا النوع من الصور كما هو الحال في الأحلام - نشهد النبلاء والأمراء بأكمامهم السابغة المطرّزة والفلاحين بسراويلهم القصيرة الخشنة، كما نشهد الثياب الباذخة المقصّبة والجياد والثيران والآلات الزراعية مصوّرة بدقّة شديدة فتبدو كأنها غريبة عن العالم الواقعي.على أن الطراز الدولي لم يقف عند التصوير وفنون القول والموسيقى فحسب بل جاوزها إلى الحفر على العاج فشكّل تلك التماثيل الصغيرة للشخصيات المقدّسة التي كانت تلقى رواجاً بين المتديّنين، كما أضاف إليها نقوشاً فوق الصناديق والعلب والأمشاط والسروج تشكّل مشاهد غرامية وبطولية. كذلك التفت فنانو النسجيات المرسّمة إلى إعداد نسجيات كبيرة الحجم كي تبعث الدفء في الجدران الرطبة بقلاع الشمال وقصوره، فنرى في هذه اللوحات المنسوجة من الصوف الأمراء يخطون فوق دروب مغطّاة بالزهور، كما نشهد تجسيداً للأساطير الشائعة وقصص الحب الذائعة وقتذاك. ومن بين الصيغ الزخرفية التي زيّنت بعض هذه النسجيات "صيغة الزهرات الألف" Millefiori التي تنتثر وتشيع في أرجاء الخلفيات متألّقة بنورها المختلف الألوان، وكان الأوربيون قد اقتبسوها عن الشرق الأدنى بعد عودتهم من الحروب الصليبية، وكذا ظهرت فوق هذه النسجيات صورة "الحسناء" إلى جوار اليونيكورن Unicorn [الليكورن] أو وحيد القرن، وهو حيوان أسطوري غاية في الجمال والرشاقة جسمه جسم فرس أنثى وفي منتصف جبينه قرن. وكان لهذا الحيوان الأسطوري قوة يُطهّر بها كل ما يمسّه ولا يقوى على الإمساك به إلا عذراء، ومن ثم اتخذ رمزاً للعفّة والطهارة ولبتولة السيّدة مريم. (لوحة 107).هكذا كانت تلك المنمنمات التي ابتدعها بول لمبورج وأخواه وكذا بعض لوحات المصوّر بيزانللو هي ذورة النتاج الفني الإقطاعي القوطي الذي جمع بين نهجي الشعبين اللاتيني والجرماني، وبقيت جميعها إلى اليوم لها سحرها الذي لا ينقطع، بصفائها الذي يحاكي صفاء الجواهر، وبترقيناتها المذهّبة، وبما بين خطوطها من انسجام وتوافق، وبطبيعتها الحالمة الوادعة. غير أن هذه الومضة الفنية كانت النهاية للإبداع الفنّي للحضارة القوطية جمعاء قبل أن تأتي عليها حضارة عصر النهضة، ومع هذا ظلّت تلك التصاوير تشير إلى حضارة عصر ولّى جاءت في إثرها حضارة أخرى.وما كاد القرن الخامس عشر يهلّ حتى دخل الفن القوطي مرحلته الأخيرة، وكان - كما هي العادة - أن صحب اضمحلال الطراز القوطي مغالاة في استخدام أكثر أشكاله تطرّفاً وفي أواخر هذا العصر لم تعد فرنسا محطّ الفن القوطي، بعد انفلات حبل الالتزام الذي كان يستملي من العقل والمنطق شيئاً فشيئاً أمام قوى الحياة الكامنة فإذا هي تنطلق من عقالها وقد كان من مظاهرها الإسراف في الزخارف النباتية دون قيد، كما اندفعت النزعات القومية على هواها.ومع مرور الأيّام انطلقت عقلانية اللاهوت السكولائية من صرامة نمطها نحو الوجدانية الدافئة، فأخذ القديس برنار شأنه شأن القديس فرنسيس الأسيزي يرشد الناس إلى أن التقرّب إلى الله يكون عبر الوجدان لا العقل، وهو ما أوحى إلى الفن بأن ينزل إلى حياة الناس وواقعهم لا يستملي مما يوحي به العقل ولكن يستملي مما تقع عليه العين، فإذا هو ينطلق انطلاقة واسعة في تصوير ما هو محيط به من الخلق على ما هو عليه في واقعيته وماديته. فعلى حين كانت التصاوير مع القرن الثالث عشر تتحرّج على سبيل المثال من الجمع بين عاشقين فتصوّر أحدهما في طرف وثانيهما في الطرف الآخر من الصورة وهما يتناجيان على البُعد (لوحة 108 أ، ب، ج، د)، نرى مجالس العشق في القرن الرابع عشر وقد جمعت بين العاشقين والمعشوقات في تدان وتلاصق مع مسحة من الاستحياء التي كانت باقية من منهج العقلانية. وإذا طالعنا صور القرن الخامس عشر نرى فيها غلبة الحسّية والواقعية على العقلانية غلبة أشدّ وأعمّ، فإذا نحن نرى العاشقين والعاشقات وقد جمعت بينهم الألفة الوثيقة فلا استحياء ولا حياء. ثم انصرمت حقبة فإذا الفنانون بعدها يصوّرون العشاق وسط الخمائل علانية لا خفية. وفي الوقت نفسه جعل مصورو الأراضي الواطئة من الحب العذري حبّاً مادّياً فإذا هُم يَجمعون بين كهل غني وفتاة مراهقة طمعاً في المال لا استجابة للحب، فنرى الفنان الهولندي بيتروس كريستوس Petrus Christus (1410 - 1472) يبرز المادية بأقصى مقوّماتها في لوحته المعروفة باسم "القديس إيجيليوس وهو يزن خاتمي زواج لعروسين" التي رسمها عام 1449 بتكليف من نقابة الصيّاغ والمحفوظة بمتحف المتروبوليتان بنيويورك (لوحة 109). وليست لهذه الصورة ما يشابهها في الفن تأثراً بالتجارة والاهتمام بالقيمة المادية للأشياء مما أفضى بالفنانين إلى أن يعنوا بالتصاوير المادية، فإذا النظر لا ينفر من هذه الصور ومثيلاتها.هكذا كان عصر النهضة إذن ردّ فعل للعصر الوسيط، وفي الحق إنه لم يكن ثمّة فاصل بينهما بل كان هذا أقرب ما يكون إلى التحوّل والانتقال. ومن هنا كان من الاستحالة بمكان أن نحدّد لهذا التحول وذلك الانتقال تاريخاً بعينه، فلقد كان عصر النهضة يختلف باختلاف بدايته من إقليم إلى آخر، فقد يكون بدأ في مدينة على حين كانت جارتها من المدن الأخرى غارقة في العصر الوسيط.وقد كان النموذج الذي قدّمه فنّ النحت الفرنسي هو المؤثّر أكثر في المثّالين الإيطاليين سواء في ذلك مثّالو إقليم لومبارديا في القرن الثالث عشر أو مثالو بييزا في القرن الرابع عشر الذين كانوا الروّاد الأوائل لفن النحت في عصر النهضة. ووضعاً للأمور في نصابها نستطيع القول بأن إبداع الأشكال المستوحاة من العالم الواقعي كان أولاً من ابتداع الفنانيين القوطيين، وكان العبء الذي حملته النهضة الإيطالية هو الامتداد بهذا الاتجاه إلى غايته، لانتهاجها فن العصر الكلاسيكي أو بمعنى آخر لرجوعها إلى المصادر الأساسية الحقة لفن النحت. ولقد كان لفن النحت في العصور الوسطى تأثيره العظيم على فن التصوير في القرن الخامس عشر إذ منحه الإحساس بالكتلة، كما أضاف الاهتداء إلى تقنية التصوير بالزيت في منتصف القرن نفسه صلة أخرى بين التصوير والنحت، إذ عن طريق المغالاة في المحاكاة في فن التصوير غدت الأشكال الصلبة والأجسام الآدمية وكأنها محفورة في الحجر الصلد أو المعدن المسبوك، وهذا لما يملكه فن التصوير من القدرة على الإيهام والخداع البصري، فذاع هذا الأسلوب الذي أخذ صفته النحتية من تجسيمه في مساحات رحبة، وكذا من قيمته اللمسية في كافة أنحاء أوروبا، على نحو ما نشهد في أعمال الفنان البرتغالي نونيو جونسالفيس Nuno Goncalves (لوحة 110).

بالتازار برموزر













النحت







بالتازار برموزر Permoser(1651 - 1732)
ويعدّ برموزر ناقل طراز النحت الباروكي إلى ألمانيا، وهو مثّال ألماني من أبرز فناني الباروك خلال القرن السابع عشر، وكذا هو مصوّر وحفّار، كما يعتبر من أشهر رسّامي مدرسة (حوض الدانوب)، درس الفن في سالزبورج ثم انتقل إلى فيينا وروما حيث كان لقاؤه الخصيب ببرنيني العظيم وداكورتونا إلى أن استقر في النهاية بدرسدن، ولم يفته الأخذ بأسلوب المثّال الفرنسي بوجيه أستاذ أساطين النحت الباروكي. وكان يجمع برموزر بين موهبة النحات والمعماري فشارك في تزيين قصر زفنجر مع غيره من المثّالين المزخرفين (لوحة 263). ومن أبدع منحوتاته مجموعة تتابع فصول السنة الأربعة (لوحات 264، 265، 266، 267). ويمكن وصف أسلوبه في النحت بالأسلوب المقتضب المعهود في ذوق طراز الروكوكو الزخرفي يكسو هيكلاً ذا طراز باروكي برنيني النزعة.

















الجمعة، 1 مايو 2009

برونزينو 1503-1572




برونزينو 1503-1572
وفي الفترة ما بين ابتكار كوريجيو لنموذج الجمال المطلق وعودته إلى الظهور خلال القرن الثامن عشر مرّت فينوس بنماذج أُخرى يأتي في مقدّمتها ما يُدعى بنموذج النزعة التكلّفية Mannerism الأسلوب التكلّفي هو ما يطرأ على الأسلوب الفني من تأنق أو تكلّف أو غلوّ، ويُعزى إلى التصوير الإيطالي خلال القرن السادس عشر، واستغرق الفترة ما بين النهضة الشمّاء ونشأة أسلوب الباروك. وقام أساساً على الإعجاب بميكلانجلو وما تلى ذلك من إفراط في محاكاة تكويناته الفنية ومن تحريف معبّر مقصود لأشكاله. وأهم خواص الأسلوب التكلّفي المبالغة في إظهار القوى العضلية أو إطالة أشكال الشخوص، أو إضفاء التوتر على الحركات والإيماءات أو ازدحام التكوين الفني أو المغالاة في بعض النسب والمقاييس، وما يترتب على ذلك كله من استخدام للألوان الصارخة. (م.م.م.ث). ، وهي تعبير عن مدرسة كثيراً ما يساء فهمه وإن ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمثل أعلى للجمال الأنثوي يتّسم بالإفراط غير الواقعي في طول أعضاء الجسد وبرشاقة وأناقة بزّتا النماذج التقليدية المعهودة0 وتكمن المفارقة في أن ميكلانجلو الذي لم يستهوه جسد المرأة كان له تأثير واضح في تشكيل صورة فينوس، إِذ هيمنت ابتكاراته التشكيلية على معاصريه فإذا هي تتجلّى في أشكال لم يكن يتوقعها أحد، مثال ذلك صورة فينوس في لوحة "رمز الهوى" للفنان برونزينو Bronzino المحفوظة بالناشونال جاليري في لندن (لوحة 1، 2) التي غدت قمة الأناقة في عهد آل مديتشي برشاقة جسدها الصقيل ووضعها المتأوّد ومجونها المكبوح. وكان ميكلانجلو أول من فتح الباب على مصراعيه لهذا التطور الذي أبدع مثل هذه الوضعات حين ابتكر وضعة تمثال "الليل"وجعلها أساساً لصورة ليدا، فلقد ظل تمثالا "الليل" و"الفجر" الأنثويان بمصلّى مديتشي النبع الذي يستقي منه المصوّرون صور العاريات على مدى نصف قرن.
وليس ثمّة تفسير متّفق عليه من الجميع للوحة رمز الهوى أو (فينوس وكيوييد والحماقة والزمن) حيث نميّز كيوبيد بجناحيه وكنانة سهامه، يحتضن أمّه فينوس مقبّلاً ثغرها، كما نتعرّف على الزمن من الساعة الزجاجية. وتبقى بعد ذلك أربعة شخوص: فنرى في أعلى اليسار امرأة قد استخفى وجهها وراء قناع وهي تمسك بيدها حافّة ستارة زرقاء وتحتها شخصية لا ندري إن كانت لذكر أم لأنثى تشدّ شعرها بكلتي يديها. وإلى اليمين صبيّ صغير يقبض على باقة زهور بكفّه ويحيط برسغه الأيسر خلخال مجلجل، ويبدو أنه قد داس على الشوك فانغرزت إبرة في كعبه اليمنى. ومن ورائه وجه صبيّة تظهر عجيزتها على صورة عجيزة حيوان ذي فروة وذيل تغطّيه الحراشف، وتمسك بإحدى يديها خليّة نحل بينما تمسك بيدها الأُخرى ذنباً مسنوناً كلسان الأفعى. كما نشهد زوجاً من الحمام الأبيض إلى اليسار من أمامية الصورة، وتقبض فينوس بيدها اليسرى على كرة ذهبية، وقد أُلقي بقناعين لرجل وامرأة إلى اليمين من أمامية الصورة. ويصف الفنان ومؤرّخ الفن فاساري هذه اللوحة بأنها: "صورة لا يعبّر عن مقاصدها وصف تتيه بجمالها سواء في تكوينها الفني الشديد الإتقان أو في التباين غير المألوف بين درجات ألوانها، بين لون بشرة الأجساد الشاحبة والألوان الأخرى المتألقة تألّق المعدن." وعلى حين يذهب بانوفسكي إلى تفسير هذه الصورة الرمزية بأنها الزمن يكشف عن أن المتعة الحسيّة تفضي إلى اليأس والغيرة، يذهب ليفي Leveyإلى أنَّ هذه الصورة تمثّل فينوس وهي تجرّد كيوبيد من سلاحه.

عصر الرينيسانس رافائيل (1483- 1520)


رافائيل (1483- 1520)
ما من شك في أنه كان ثمة فريق من عباقرة الفن خلال القرون الخمسة الماضية أعظم شأناً من رافائيل Raphael، فكان ميكلانجلو أفضل منه في رؤيته الفنية وأشد تأثيراً في النظارة، وكان ليورناردو أكثر منه عمقاً وأرهف رقّة في تحليل ما يصوّره، وكنّا مع جورجوني نتذوّق عذوبة الدنيا بأكثر مما نتذوّقها مع رافائيل، وكنا نحسّ مع تتسيانو وفيرونيزي بشموخ الحياة وروعتها بأكثر مما نحسّهما عند رافائيل. وإذا قسناه مصوّراً للشخوص فلن نراه يرقى في هذا المضمار إلى مستوى كبار الفنانين الفلورنسيين، وكذلك لن نراه يضفي على تصاويره أطياف الألوان الآسرة فعل فناني البندقية. وإذا وازنّاه بفنانين ممن هم على شاكلة بولايولو لوجدناه دون المستوى، فلقد كان لا يؤمن بدلالات الحركة والشكل كما لم يؤمن بها من قبل سلفه الأستاذ العملاق دوتشيو. أما عظمة رافائيل الحقة وما يشدنا إلى تصاويره فهي شيء آخر غير هذا كله، هو تلك الموهبة التي وهبها "موضّحاIllustration الصورة الإيضاحية، هي التصوير التوضيحي للكتب والمخطوطات، وهي أيضاً ما يضفيه ذوق الفنان وخياله على اللوحة في نقله للحقيقة المرئية إلى عين المشاهد. (م. م. م. ث). ً"41، أعني تصوّره للرؤية المثالية التي تنطوي عليها مخيّلة الفنان لا تلك التي تقع عليها عيناه في الواقع. وما نظن أحداً باراه في مخيّلته العظيمة في تصور الأشياء إدراكاً ومستوى ومدىً. ولا أعني بهذا أنه لم يكن ثمة بين الفنانين من ساووه في هذا المجال، ولكن هذا كان قاصراً على بعض صورهم لا كلها مثله. ومن بين الرسوم التي أنجزها رافائيل لتمثال أبوللو بلفدير (لوحة 50) إعجاباً به وتقديراً له لم يحفظ لنا الزمن إلا عجالة تخطيطية واحدة فحسب، مع ذلك فإننا نلمس أنه منذ وطئت قدماه أرض روما أخذت إيقاعات أبوللو بلفدير وروحه تسريان في الكثير من منجزاته المصورة العظمى. ولم يقتصر الأمر على ما تحلت به من رشاقة بل امتد إلى التعبير عن سمة جديدة غير مألوفة هى نظرة التطلع نحو عالم أبهى إشراقاً، تلك النظرة التي انفرد بها أبوللو بلفدير حيث نطالعها ثانية مجسّدة بيد رافائيل في وجوه القديسين والشعراء والفلاسفة المصوّرين على جدران قاعات قصر الفاتيكان. على أنه بالرغم من قدرة رافائيل التي لا تبارى في الاستيعاب والتمثّل إلا أنه كان حريصاً على عدم الاستعارة المباشرة من أي شكل من الأشكال.كان رافائيل في طليعة الفنانين الذين يدينون بالاتجاه الإنساني، وكانت الكلاسيكية هى ما نشأ عليه وعاش، غير أن ثمة عنصراً آخر كان له أثره هو الآخر في حياة الغرب الفكرية هو ما تنطوي عليه التوراة والإنجيل من تعاليم دينية وقصص تهذيبي شاعري، وإن كان أثره في الحياة الفكرية دون أثر الكلاسيكيات. ولعل ما فعله رافائيل من مزج بين العنصرين قد أثرى الحياة الفنية حين كسا القصص الديني توراة وإنجيلاً بثوب من الكلاسيكية، وهو ما يتجلى في "الصور التوضيحية" التي رسمها مستمدة من العهدين القديم والجديد، وأصبحنا نشعر حين نتطلع إلى تلك الصور كأننا نقرأ التوراة والإنجيل سابحين في خيال يوناني. فما أعظمها من قدرة تلك التي وهبها رافائيل على "أغرقة" الديانة المسيحية التي كانت بطبيعتها أبيّة على الأغرقة. وحسبنا شاهد عدل على ذلك لوحته "رؤيا حزقيال" الموجودة بمتحف بيتي بفلورنسا (لوحة 392)، فإذا نحن نرى "يهوه" يتجلّى لنبيّه - وكأنه الإله زيوس متجلياً للشاعر سوفوكليس - مندفعاً من جوف سحابة عاصفة يسطع وهج لهيبها، معتلياً أربعة حيوانات أحدها له وجه إنسان والثاني له وجه أسد والثالث له وجه ثور والرابع له وجه نسر. ومع احتفاظ رافائيل بما انطوت عليه المسيحية من معان نبيلة وما في الكلاسيكية من جلال وسمو، فلقد أمدّنا بمثل جمالية خالدة، فإذا هو يبدع نموذجاً يجمع بين اتجاهات عدة في تجسيد الجمال الأنثوي، جانحاً إلى طريق وسط بين الحسيات والمثاليات. وما أكثر ما حاول الفنانون المعاصرون له أن يفعلوا فعله في تصوير المرأة في صورتها المثلى غير أنهم لم يبلغوا مبلغه ولو في إحدى المحاولات، فهو دون منازع الفنان ذو العبقرية الرفيعة الفذة التي لم يتربّع على ذراها أحد سواه. كانت نشأة رافائيل في إقليم أومبريا، وتلقّى دروسه الأولى على يد بيروجينو، وإذا هو يحتذي حذوه حتى ذهب المؤرّخ فاساري إلى أن أعمال التلميذ وأستاذه ليس من اليسير التفرقة بينهما، فعلى حين كانت أعمال ميكلانجلو الأولى فريدة فذّة لا تشبه غيرها فإن أعمال رافائيل المبكرة جاءت على نمط أعمال أستاذه. وقد نزل فلورنسا في الفترة التي كانت شهرة ميكلانجلو وليوناردو آخذتين في الذيوع والانتشار، وكان رافائيل عندها في العشرين من عمره لا يدري ما يخبّئه له الدهر في ظل هذين العملاقين، كما كان يتطلع إلى أن يكون مثل أستاذه بيروجينو شهرة ونبوغاً إن لم يفقه. ولم يكن يملك حين دخل ميدان الفن في فلورنسا ذلك الحس الواقعي الذي كان يسود المدرسة الفلورنسية، وكان كل ما يملك هى القدرة على رسم الخطوط الجمالية البالغة الإتقان، فضلاً عمّا كان يتمتّع به من موهبة فريدة في استكناه ما ينطوي عليه الموضوع المصوّر من خفايا وإبرازها فنياً. وكان أول ما فعل ليبلغ ما كان يطمح إليه أن خلف وراءه ما لقنه في إقليم أومبريا متّجهاً بكل طاقاته إلى النهل من المذهب الفني الفلورنسي، وإذا هو في فترة وجيرة قد قطع شوطاً بعيداً في تطوير أسلوبه الفني، وأصبح فنان أومبريا العاطفي هو فنان المشاهد الدرامية الرائعة، وغدا هذا الشاب الذي كان يصوّر الواقع جامداً كما هو، يضفي على هذا الواقع الجامد ما يظله من مواقف إنسانية، وبهذا أصبحت شخوصه معبّرة عما يختلج في خواطرها وما يضطرم في وجداناتها، ومن ثم أصبح أسلوبه الخطّي الذي أخذه عن بيروجينو أسلوباً أكثر ملاءمة لما تنطق به التصاوير من جاذبية وما تموج به من نبضات الحياة. وحين وطئت قدماه أرض روما ما لبث هذا الفنان الذي كان شغوفاً بالجمال الوادع فحسب أن نبغ وتألق بقدرته الفذة على توزيع المجموعات في أنحاء اللوحة.

عصر الرينيسانس (فرا فيليبوليبي 1406 - 1469

فرا فيليبوليبي 1406 - 1469
وقد أتاح لنا فيليبوليبي Filippo Lippi بما خلّفه من فيض غزير من التصاوير التي بقي أكثرها في حالة سليمة ما يجعلنا أكثر قدرة على تقييمه وتقديره فناناً له مكانته وجدارته، فإذا كان الافتتان بسحرها الجذاب كافياً كي يخلق فناناً عظيماً فلنا أن نعدّ فيليبو فناناً عظيماً بل أعظم فنان فلورنسي قبل ليوناردو، فأنّى لنا أن نجد وجوهاً أشدّ ملاحة وإغراء من عذراواته وخاصة لوحة العذراء والطفل والمَلَك التي يحتفظ بها متحف أوفتزي (لوحة 1) هي ولوحة العذراء والطفل (لوحة 2) التي تثير فينا أنبل العواطف وأسماها؟ وأين نجد في التصوير الفلورنسي ما هو أشدّ جاذبية من مرح أطفاله وأكثر شاعرية من مناظره الطبيعية وأرق سحراً من ألوانه؟ ويتوّج هذا كله التعبير عن الصحة المتدفّقة وعن مراحل العمر التي يمرّ بها الإنسان، مُستلهماً معينه الفيّاض مما يتمتع به من خفّة الظلّ والروح (لوحة 3). ومع ذلك فكل هذه الصفات المتميّزة تشكّل رسّاماً فحسب لا مصوّراً من الطراز الأول، وهذا في الحق ما كان عليه فيليبوليبي. أما إذا كان قد تجاوز هذه المرتبة أحياناً فمردّ ذلك إلى تأثير مازاتشيو عليه أكثر مما هو إلى مواهبه الشخصية، ذلك أنه لم يكن يمتلك الحس العميق بالدلالة المادية أو الروحية الذي ينبغي أن يمتلك ناصيته الفنان الحق. وحين كان يصوّر مترسّماً خُطى مازاتشيو كان يعطي للقيمة اللمسية حقّها أحياناً كما هي الحال في لوحة العذراء بمتحف أوفتزي، لكنه كان في أغلب الأحيان يداري عجزه عن التعبير عنها بتصوير الأردية ذات الخطوط الرشيقة والأطواء الدسمة. من أجل هذا كانت وجهة فيليبو الفنية هي التعبير عما هو رقيق مبهج من مشاعر الحياة اليومية العادية التي تفيض على النفس بهجة وبشراً لا الالتزام بإعادة الخلق الفني الباهر، ومن ثم كان مكانه الحق مع مصوّري حياة الناس اليومية Genre. وعلى حين اهتم هو بالتعبير عن وجدانهم اهتم غيره من أمثال بينوتزو جوتزولي بالتعبير عن أجسادهم، وكلاهما ليبي وجوتزولي لا يهدف إلى غير التمثيل التشكيلي Representation بأي ثمن.

(فرا فيليبوليبي 1406 - 1469

فرا فيليبوليبي 1406 - 1469
وقد أتاح لنا فيليبوليبي Filippo Lippi بما خلّفه من فيض غزير من التصاوير التي بقي أكثرها في حالة سليمة ما يجعلنا أكثر قدرة على تقييمه وتقديره فناناً له مكانته وجدارته، فإذا كان الافتتان بسحرها الجذاب كافياً كي يخلق فناناً عظيماً فلنا أن نعدّ فيليبو فناناً عظيماً بل أعظم فنان فلورنسي قبل ليوناردو، فأنّى لنا أن نجد وجوهاً أشدّ ملاحة وإغراء من عذراواته وخاصة لوحة العذراء والطفل والمَلَك التي يحتفظ بها متحف أوفتزي (لوحة 190) هي ولوحة العذراء والطفل (لوحة 191) التي تثير فينا أنبل العواطف وأسماها؟ وأين نجد في التصوير الفلورنسي ما هو أشدّ جاذبية من مرح أطفاله وأكثر شاعرية من مناظره الطبيعية وأرق سحراً من ألوانه؟ ويتوّج هذا كله التعبير عن الصحة المتدفّقة وعن مراحل العمر التي يمرّ بها الإنسان، مُستلهماً معينه الفيّاض مما يتمتع به من خفّة الظلّ والروح (لوحة 192). ومع ذلك فكل هذه الصفات المتميّزة تشكّل رسّاماً فحسب لا مصوّراً من الطراز الأول، وهذا في الحق ما كان عليه فيليبوليبي. أما إذا كان قد تجاوز هذه المرتبة أحياناً فمردّ ذلك إلى تأثير مازاتشيو عليه أكثر مما هو إلى مواهبه الشخصية، ذلك أنه لم يكن يمتلك الحس العميق بالدلالة المادية أو الروحية الذي ينبغي أن يمتلك ناصيته الفنان الحق. وحين كان يصوّر مترسّماً خُطى مازاتشيو كان يعطي للقيمة اللمسية حقّها أحياناً كما هي الحال في لوحة العذراء بمتحف أوفتزي، لكنه كان في أغلب الأحيان يداري عجزه عن التعبير عنها بتصوير الأردية ذات الخطوط الرشيقة والأطواء الدسمة. من أجل هذا كانت وجهة فيليبو الفنية هي التعبير عما هو رقيق مبهج من مشاعر الحياة اليومية العادية التي تفيض على النفس بهجة وبشراً لا الالتزام بإعادة الخلق الفني الباهر، ومن ثم كان مكانه الحق مع مصوّري حياة الناس اليومية Genre. وعلى حين اهتم هو بالتعبير عن وجدانهم اهتم غيره من أمثال بينوتزو جوتزولي بالتعبير عن أجسادهم، وكلاهما ليبي وجوتزولي لا يهدف إلى غير التمثيل التشكيلي Representation بأي ثمن.
وقد أتاح لنا فيليبوليبي Filippo Lippi بما خلّفه من فيض غزير من التصاوير التي بقي أكثرها في حالة سليمة ما يجعلنا أكثر قدرة على تقييمه وتقديره فناناً له مكانته وجدارته، فإذا كان الافتتان بسحرها الجذاب كافياً كي يخلق فناناً عظيماً فلنا أن نعدّ فيليبو فناناً عظيماً بل أعظم فنان فلورنسي قبل ليوناردو، فأنّى لنا أن نجد وجوهاً أشدّ ملاحة وإغراء من عذراواته وخاصة لوحة العذراء والطفل والمَلَك التي يحتفظ بها متحف أوفتزي (لوحة 190) هي ولوحة العذراء والطفل (لوحة 191) التي تثير فينا أنبل العواطف وأسماها؟ وأين نجد في التصوير الفلورنسي ما هو أشدّ جاذبية من مرح أطفاله وأكثر شاعرية من مناظره الطبيعية وأرق سحراً من ألوانه؟ ويتوّج هذا كله التعبير عن الصحة المتدفّقة وعن مراحل العمر التي يمرّ بها الإنسان، مُستلهماً معينه الفيّاض مما يتمتع به من خفّة الظلّ والروح (لوحة 192). ومع ذلك فكل هذه الصفات المتميّزة تشكّل رسّاماً فحسب لا مصوّراً من الطراز الأول، وهذا في الحق ما كان عليه فيليبوليبي. أما إذا كان قد تجاوز هذه المرتبة أحياناً فمردّ ذلك إلى تأثير مازاتشيو عليه أكثر مما هو إلى مواهبه الشخصية، ذلك أنه لم يكن يمتلك الحس العميق بالدلالة المادية أو الروحية الذي ينبغي أن يمتلك ناصيته الفنان الحق. وحين كان يصوّر مترسّماً خُطى مازاتشيو كان يعطي للقيمة اللمسية حقّها أحياناً كما هي الحال في لوحة العذراء بمتحف أوفتزي، لكنه كان في أغلب الأحيان يداري عجزه عن التعبير عنها بتصوير الأردية ذات الخطوط الرشيقة والأطواء الدسمة. من أجل هذا كانت وجهة فيليبو الفنية هي التعبير عما هو رقيق مبهج من مشاعر الحياة اليومية العادية التي تفيض على النفس بهجة وبشراً لا الالتزام بإعادة الخلق الفني الباهر، ومن ثم كان مكانه الحق مع مصوّري حياة الناس اليومية Genre. وعلى حين اهتم هو بالتعبير عن وجدانهم اهتم غيره من أمثال بينوتزو جوتزولي بالتعبير عن أجسادهم، وكلاهما ليبي وجوتزولي لا يهدف إلى غير التمثيل التشكيلي Representation بأي ثمن.

عصر الرينيسانس (أنطونيو بولا يولو مصوّراً 1429 - 1498)




ولا يمكن الخوض في الحديث عن المتعة الجمالية التي نستشعرها من تمثيل الحركة والمناظر الطبيعية دون أن نشيد بنصيب بولا يولو pollaiuolo الوافي في الأولى، ونصيب بالدو فينيتي وبولا يولو في الثانية، ثم نصيب فيروكيو أيضاً في الثانية. فعلى أيدي هؤلاء الثلاثة تحقق التقدّم الملموس بين أفراد ذلك الجيل من المصوّرين الفلورنسيين في هذين المجالين.ونحن نستطيع إدراك ما يمور في الأجسام من حركة - التي هي شيء آخر غير الانتقال من مكان إلى آخر - مثلما ندرك الأشياء المصوّرة من خلال استثارة مخيّلتنا اللمسية مع فارق واحد، هو أن اللمس يتراجع خطوة وراء إحساسات الجهود والضغوط العضلية المختلفة. مثال ذلك أن المرء حين يشاهد شخصين يتصارعان، فلا يعني هذا المشهد شيئاً بالنسبة له من حيث هو نشاط حيوي مفعم مضطرم إلا إذا تحوّلت انطباعاته البصرية على الفور إلى إدراك للجهود والضغوط يستشعرها سارية في بدنه وعضلاته، وإلا فلن يزيد أثر ما يشاهده شيئاً عما يحسّه عندما يسمع أن شخصين يتصارعان. ومع أن مباراة للمصارعة لا شك تنطوي على عناصر فنية متنوّعة، إلا أن استمتاعنا بها لا يكون استمتاعاً فنياً بحتاً، ليس فقط لاستغراقنا في متابعتنا للمباراة الرياضية بل لافتقادنا حاسّة الإثارة الفنية أمام التتابع المتلاحق لحركات الأجسام التي تجعلنا عاجزين عن إدراكها إدراكاً شاملاً وما يثيره ذلك من إرهاق لملكاتنا. أما إذا كان ثمّة سبيل لنقل هذا الإدراك بالحركة دون ما يصاحبها من إجهاد وتشويش، واستطاع الفنان أن يجعلنا نفطن إلى هذه الحركات لاهثين وراء ملاحقتها وإدراكها على الطبيعة، فإنه يمنحنا بذلك إحساساً أوفى وأوفر بالقدرة على الاستيعاب، وبمعنى آخر أنه يستخلص لنا الدلالات المادية للأشكال، وإن كانت مهمته في هذا المجال أشقّ وأصعب، ولن يتسنّى له ذلك إلا بطريقة واحدة هي التقاط الحركة المتفرّدة في قوّة تعبيرها، التي يمكن من خلالها الإحاطة بكافة الحركات التي يؤديها المصارع وتسجيلها، فلا تلبث المتعة أن تجد سبيلها إلى الرائي الذي يشعر وكأنه هو الذي يصارع بعضلات صدره وذراعيه وكفّيه وساقيه وقدميه، بل ويكاد يحسّ أَثر الجهد الخارق الذي يبذله المصارع. كل هذا يستشعره المشاهد إذا وفّق الفنان إلى استخلاص تلك الحركة المتفرّدة في قوّة تعبيرها، فيوحي من خلالها بالتسلسل المنطقي للجهود والضغوط المرئية في الأطراف والعضلات.وفي هذا المجال بالذات أدّت الروح العلمية لفناني المدرسة الطبيعية بفلورنسا أجلّ خدمة وأوفاها للفن، إذ كان من المتعذّر تحقيق هذا التسلسل المنطقي دون دراية واسعة بأصول التشريح التي لا تتسنى إلا لأولئك المفطورين على الحاسّة العلمية واتخذوا الفن حرفة، على نحو ما نرى في بولايولو وفيروكيو. وفي مجال بثّ الحياة في الموضوع المصور ثمّة لوحات أربع لبولا يولو بلغت الذروة، أولاها الصورة المطبوعة بطريقة الحفر المعروفة باسم "معركة العراة" (لوحة 198) التي تزوّدنا بمتعة لا تقف عند حد، متعة لا تقتصر على قسمات الوجوه التي تعوزها مسحة من الجمال، ولا على مكوّنات اللوحة الزخرفية المنمّقة التي لا تقل شأناً عمّا للّوحة من أثر ساحر، بل على قدرة تلك الأشكال المتصارعة بوحشية على بث الحياة في الموضوع المصوّر مباشرة وتكثيف مستوى إحساسنا بالحيوية المتدفّقة فيها فهذا محارب قد استلقى على الأرض مرهقاً منهكاً وقد انحنى خصمه فوقه فعقد كل منهما العزم على طعن مُنازله، ونرى كيف يحاول المقاتل المُستلقي تسديد قدمه بجهد خارق إلى فخذ عدوّه لإبعاده عنه، فيستدير هذا ليضغط على رأسه بقوة لا تقل عن قوة خصمه كي يقضي عليه. لقد أعطى الفنان دلالات كل هذه الجهود والضغوط العضلية حقّها حتى أصبح لا يسعنا إلا إدراكها فنخال أننا نحاكي هذه الحركات وأننا نبذل الجهود نفسها في إتيانها، وذلك كلّ‍ه دون أدنى عناء أو جهد منّا. وهذا الإيحاء الساحر الذي تُمليه اللوحة يجعلنا على حال نحسّ معها بأن ما يسري في شراييننا هو إكسير الحياة الذي يفوق الدماء التي تسري فيها دفئاً وحيوية.وثمّة تتويج آخر لدلالات الحركة نلمسه في لوحتين أخريين للفنان نفسه هما لوحة "هرقل يصرع أنطاوس" (لوحة 199) التي نشعر معها وكأن الطاقة قد انبثقت من تحت أقدامنا سارية في شرايينا ونحن نتطلّع إلى هرقل وقد تشبثت قدماه بالأرض وتورّمت فخذاه بما يعاني من ثقل ما يحمل، ثم ارتداده إلى الوراء بظهره وتطويقه العنيف بذراعيه خصمه العملاق الذي يجاهد هو الآخر بشدّة ليتملّص من بين ذراعي هرقل، فنراه يزيح بيمناه رأسه ويدفع بيسراه ذراعه. أما اللوحة الأخرى فهي لهرقل وهو يفتك بثعبان الهيدرا حيث تتجلّى دلالات الطاقة والحركة نفسها (لوحة 200).أما لوحة الشهيد القديس سباستيان (لوحة 201) فتعدّ رائعة بولايولو الخالدة، وهي التي تروي قصة ضابط روماني من الأشراف اعتنق المسيحية أيام الإمبراطور دقلديانوس الذي استنكر ذلك منه فزجره وأمره بالعودة إلى عبادة الآلهة الوثنية الرومانية، ولما رفض الاستجابة لرغبة الإمبراطور قضى برميه بالسهام. ولا يقنع بولا يولو إلا بأن يصور رماة السهام في كافة الأوضاع التي يمكن أن يتخذوها لتنفيذ مهمتهم ومن مختلف الزوايا، تارة بالمواجهة وتارة بالمجانبة، ومرة بالانحناء إلى الأمام لإعداد السهم داخل القوس، ومرة أخرى بالانتصاب لتصويب السهم إلى القديس الشهيد، قاصداً بذلك تسجيل كافة الحركات التي يأتيها رامي السهم فإذا هو يُضفيها على ستة من الرماة وكأننا نشهد شريطاً سينمائياً. وتكشف القوة والواقعية والعضلات المفتولة والإيحاء بالأحجام عن مدى انجذاب الفنان أثناء تصويره إلى فن النحت الأثير لديه. ولا تقل هذه اللوحة عن سابقاتها امتيازاً، كما أنها لا تعبر عن تمثيل الحركة فحسب بل تعبّر بالمثل عن القيم اللمسية وفتوّة الجسد البشري.وخلال عودة هرقل إلى وطنه تصحبه عروسه ديانيرا إلى شاطئ إيفينوس المصطخب الأمواج وجده مغموراً على غير العادة بمياه الأمطار الشتوية التي كانت تثير فيه دوامات عديدة يصعب معها عبوره. وعندها اقترب منه القنطور نيسوس الجبّار الذي كان خبيراً بأماكن العبور الضحلة عارضاً أن يحمل ديانيرا إلى الشاطئ الآخر، فعهد هرقل إلى القنطور بالعذراء التي عراها الشحوب وحلّت بها الرعدة هلعاً وخوفاً من النهر ومن القنطور، وطوّح هرقل بقوسه وهراوته إلى الضفة الأخرى وقذف بنفسه إلى الماء دون تردد. وحين وقف على الضفة الأخرى التقط قوسه وسمع صوت زوجته تستغيث، فأدرك أن نيسوس يتأهب لخيانة الأمانة التي يحملها، فأطلق بيده سهماً اخترق ظهر القنطور ونفذ سنّه المعقوف من صدره. وقد وقع اختيار بولا يولو على لحظة التوتر الدرامي والحركي القصوى - وأعني بذلك أنه بوعيه الثاقب قد التقط الحركة المتفرّدة في قوة تعبيرها التي نستخلص منها الدلالة المادية والجوهرية للموضوع المصور - ليسجلها في لوحته البديعة التي تحتفظ بها جامعة ييل (لوحة 202) حين يصوّب هرقل سهمه صوب القنطور وهو يجاهد للاحتفاظ بسبيّته بين ذراعيه بينما تحاول هي التخلّص من قبضته، تفصل بينهما مياه النهر التي تصطخب بالحركة والتدفّق.

عصر الرينيسانس (جوتو 1266-1337)

جوتو 1266-1337
بدأت حقبة جديدة كل الجدّة في ميدان الفن بظهور الفنان جوتو الذي لم يكن ينتقص من شأنه الرفيع ما يُشاع من أنه كان مديناً في أسلوبه التصويري إلى الفنانين البيزنطيين، وفي أهدافه إلى محاكاته أعمال كبار مثّالي كاتدرائيات الشمال الأوربي. وتعدّ الصور الجصّية الجدارية "الفريسكو" أشهر إنجازات جوتو، وقد سُمّيت "فريسكو" لأنها تُرسم فوق الحائط بينما لا يزال الجصّ أو الملاط طريّاً طازجاً. ولقد كان المصورون أشد بطئاً من المثّالين الإيطاليين في اللحاق بالروح الجديدة للفنانين القوطيين والتجاوب معها، فلا يغيب عن البال أن مهمّة المثّال الذي يهدف إلى تصوير الطبيعة أيسر بكثير من مهمة المصوّر صاحب الهدف نفسه، فالمثّال في غير حاجة إلى الإيحاء العميق عن طريق التضاؤل النسبي(32) Foreshortening التضاؤل النسبي هو إيحاء بالعمق الفراغي وبالبُعد الثالث في سطح اللوحة نتيجة ضمور أبعاد الأشياء وأحجامها شيئاً فشيئاً كلما أَمعنّا عُمقا، وهو خدعة بصري تُضفي لوناً من ألوان الإيهام بامتداد ذلك العمق. (م.م.م.ث). أو التجسيم(33) Modelling التجسيم هو الإيحاء بكثافة الأجسام وشغلها لجزء من الفراغ الثلاثي الأبعاد فوق مسطّح ذي بُعدين (م.م.م.ث). باستخدام الضوء والظل، إذ ينتصب تمثاله بالفعل في فراغ حقيقي وضوء حقيقي. وكانت بعض المدن الإيطالية كالبندقية على سبيل المثال ما تزال على اتصال وثيق بالإمبراطورية البيزنطية، كما ظل الحرفيون الإيطاليون يتطلعون إلى القسطنطينية مصدراً للإشعاع يستلهمونه وبه يهتدون، فحتى القرن الثالث عشر كانت الكنائس الإيطالية ما تزال مزيّنة بلوحات الفسيفساء الرصينة على غرار النمط المتأغرق. وقد يتبادر إلى الذهن خطأ أن هذا الولاء للطراز اليوناني الشرقي المحافظ قد وقف حجر عثرة في سبيل التغيير والتطور الذي ما كاد يطل في خاتمة القرن الثالث عشر حتى لعب الفن البيزنطي نفسه دوراً جعل الفن الإيطالي لا يلحق فحسب بمنجزات كاتدرائيات الشمال الأوربي بل أن يضرم ثورة كبرى في فن التصوير بأسره، مُتيحاً للإيطاليين فرصة عبور الحاجز الذي يفصل النحت عن التصوير. وعلى الرغم مما يتّسم به الفن البيزنطي من جمود فلا ننسى أنه هو الذي صان مكتشفات المصوّرين الإغريق، وكان لا معدى عن ظهور عبقرية تخرج بالفن البيزنطي عن جموده وتنطلق به إلى عالم جديد، وكان أن ظهرت هذه العبقرية في شخص المصوّر الفلورنسي جوتو بوندوني Giotto الذي طبقت شهرته الآفاق وتباهى به أهل فلورنسا وأشادوا بذكره ووسّعوا رقعة ذيوع صيته وراحوا يؤلفون القصص والحكايات عن عبقريته ومهارته وذكائه. وكان هذا في حد ذاته أمراً جديداً غير مألوف، فلم يكن الناس خلال العصور الوسطى يكترثون بحفظ أسماء فنانيهم وكانوا يذكرونهم كما يذكر أحدنا خيّاطه أو صانع أثاثه، وكذا الفنانون أنفسهم لم يعنوا حتى بتوقيع أسمائهم فوق أعمالهم. وإذا كنا لا نعي أسماء العباقرة الذين أنجزوا منحوتات كاتدرائيات شارتر ونورمبرج وغيرهما فهم دون شك قد ظفروا أثناء حياتهم بما يستحقون من تقدير هم به جديرون، لكنهم رغبوا عن هذا التقدير الذي تبرعوا به من جانبهم للكاتدرائية التي عملوا بها طمعاً في مثوبة الله. ومنذ ظهور جوتو بدأ عهد جديد في تاريخ الفن في إيطاليا أولاً ثم في غيرها من بقاع أوربا، إذ أصبح تاريخ الفن هو تاريخ عظام الفنانين.وقيل إن جوتو قد نشأ راعياً فقيراً اعتاد الرسم والنقش فوق ما يصادفه من الصخور والأحجار المستوية الأسطح المتناثرة بين الحقول. ومهما كانت طبيعة نشأته فقد لقن منذ البداية كيف يتأمل الطبيعة عن قرب قبل أن يرسم، كما درس نشاط الإنسان والطير والحيوان وكيف تنمو الأشجار وتبدو الجبال، ثم شرع فيما لم يجل بخاطر أي فنان قوطي من الشمال، إذ حذف كل تفصيل يكون من ورائه تعقيد مشهده، وجعل تصميماته أقرب إلى البساطة والطبيعة مع حرصه على التنويع.وكان جوتو إلى جوار طبيعته الفنية الرهيفة الحس رجلاً واقعياً. فحرص على جمع ثروة ضخمة وأدار أملاكه بحذق ودراية. وتكمن المفارقة في أنه قد حاز هذه الشهرة وظفر بهذه الثروة وهو في خدمة الفرنسيسكان يصور فضائل الفقر والزهد حسبما تجلّت في حياة القديس فرنسيس. والثابت أنه كان رجلاً شريفاً مستقيماً ولم يكن مرابياً جشعاً كما حاول بعض كتّاب السير أن يصوروه، فقد كان يمتلك الأراضي والعقارات ويقرض المال بفائدة شأنه شأن أي ثري فلورنسي وقتذاك. وكان لورنزو دي مديتشي العظيم سبّاقاً إلى وضع صورة لجوتو في كاتدرائية فلورنسا تقديراً لعظمة هذا الفنان الخالد، كما ذكره صديقه دانتي في النشيد الحادي عشر من "المطهر" في الكوميديا الإلهية بقوله: "لقد اعتقد تشيمابويه أنه في فن الرسم راسخ القدم، ولكن الصيحة الآن لجوتو، حتى لقد أظلمت شهرة الأول(34) الكوميديا الإلهية لدانتي. ترجمة حسن عثمان 11: 94 صفحة 169. دار المعارف ".ومنذ القدم كانت العمارة تعبيراً عن الإنسان، فلقد انطوت معابد الإغريق والرومان وكاتدرائيات العصور الوسطى على معتقدات الإنسان عن نفسه وعن آلهته، وجاء النحت فرعاً متمماً للعمارة بينما أدى التصوير دور العنصر الزخرفي حتى ظهر جوتو ليقلب ذلك المفهوم رأساً على عقب لا بقصد التغيير وإنما بصفته مصوّراً مجدّداً وأداة لهذا التغيير، فنال التصوير على يديه مكانة لم يظفر بها من قبل، وظل الحال كذلك على الرغم من الابتكارات المعمارية الفذّة التي قدّمها المعماري برونليسكي وأضرابه ومنجزات النحت الرائعة التي قدّمها أمثال دوناتللو حتى ظهر ميكلانجلو وانتهى إلى تصوير سقف مصلى سيستينا في عام 1512. وتضم الفترة الواقعة بين تصوير لوحات جوتو الجدارية وبين تصوير سقف سيستينا فنانين عظماء آخرين من أمثال مازاتشيو في فلورنسا وبييرودللا فرنشسكا في أرتزو ورافائيل في الفاتيكان، بينما قدم شمال أوربا بمزاجه الذي يباين غيره من الأمزجة روائع خالدة مثل صورة مذبح جِنت لفان إيك وصور مذبح أيزنهايم لجرو نيفالد إلى غير ذلك مما سأوسعه بحثاً في فصل تال.اختط جوتو طريقاً احتذاه المصورون قرابة ستة قرون برغم ما اعتراه من تنوّع، وهو طريق لم يعقه عائق حتى ظهور مدارس القرن العشرين العصرية أو على الأقل حتى ظهور الفنان سيزان. وكم يسترعي انتباهنا ذلك التشابه بين جوتو وسيزان فلكل منهما أسلوبه المبتكر، فعلى حين كان سيزان هو الحلقة بين التقاليد التي أرساها جوتو والمدرسة التكعيبية، كان جوتو هو الحلقة بين العصور الوسطى والتطور الثوري في عصر النهضة، ولا أقصد أن جوتو كان يرى نفسه ثورياً، وإنما أقصد أن فنه هو الذي كان ثورياً، فلقد أعاد توجيه مسيرة التصوير في تمثيله للعالم من حوله لا سيما بعد التغيير الجذري الذي طرأ على الفكر عموماً، فبعد أن ولّى عصر الإيمان الساذج نقل جوتو فن التصوير من فن رمزي إلى فن وجداني، وربط بين التصوير والكون والعواطف الإنسانية، وما كاد يفعل حتى أخذ التصوير يضرب في كل ميدان من ميادين اليقظة الفكرية والتوقّد الذهني.وفيما بين عصر جوتو وعصر ميكلانجلو جمع التصوير الفلورنسي أسماء عدة متألقة مثل مازاتشيو وفرافيليبو وبولايولو وفيروكيو وليوناردو دافنشي وبوتتشللي، وإلى جوار هؤلاء توهجت أسماء ساطعة في سماء الفن البندقي أيضاً يأتي على رأسهم بلليني وجورجوني وتتسيانو وتنتوريتو وفيرونيزي وتييبولو. والفرق بين المدرستين شاسع بعيد، فعلى حين كان الفنانون البنادقة مصورين فحسب، كان الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للفنانين الفلورنسيين. فنحن إذا غضضنا الطرف عن كونهم مصورين أفذاذ فهم مثّالون عباقرة، وإذا تناسينا أنهم مثّالون فهم أيضاً معماريون وشعراء وموسيقيون وعلماء لم يتركوا لوناً من ألوان التعبير إلا طرقوه وبرعوا فيه، وكان التصوير واحداً فحسب من بين مظاهر التعبير عن مواهبهم المتعددة. وكان جوتو أول الشخصيات العظيمة بين الفنانين الفلورنسيين، فبزغ معمارياً مبدعاً ومثّالاً ممتازاً وَفسيفسائياً بارعاً، وعرف بخفّة ظلّه وقدرته على نظم الشعر بطلاقة، لكنه اختلف عمّن خلفه من الفنانين التوسكانيين بقدرته الفذّة على اكتشاف ما هو "جوهري" في فن التصوير بصفة عامة وما هو "جوهري" في تصوير الشخوص بصفة خاصة.ولما كان التصوير يعتمد على خلق انطباع دائم ثابت بالحقيقة الفنية من خلال إضفاء بعدٍ ثالث على اللوحة المصورة في بُعدين اثنين بإعطاء قيمة لَمسيّة لانطباعات شبكية العين، لذا كانت مهمة الفنان هي إثارة الحس اللمسي للمشاهد، فيوهمه بأنه قادر على لمس الشكل المصور بأعصاب كفه وأنامله حتى لتكاد تدور مع النتوءات المختلفة على سطح "الشكل" قبل التسليم بأن ما يراه هو شيء حقيقي يملك تأثيراً متصلاً، وبهذا يكون الأمر الجوهري في فن التصوير هو تنبيه وعينا "بالقيم اللمسية(35) Tactile Values. اصطلاح ابتكره العلامة والمؤرخ الفني برنارد برينسون، قصد فيه إلى أن التصوير يعتمد على خلق انطباع دائم ثابت بالحقيقة الفنية من خلال إضفاء بُعد ثالث على اللوحة المصوّرة في بُعدين اثنين بإعطاء قيمة لمسية لانطباعات شبكية العين. لذا كانت مهمة الفنان هي إثارة الحسّ اللمسي للمشاهد فيوهمه بأنه قادر على لمس الشكل المصور بأعصاب كفّه وأَنامله حتى لتكاد تدور مع النتوءات المختلفة على سطح "الشكل" قبل التسليم بأن ما يراه هو شيء حقيقي يملك تأثيراً متصلاً. وبهذا يكون الأمر الجوهري في فن التصوير هو تنبيه وعينا بالقيم اللمسية.(م.م.م.ث). " بإمداد الصورة بنفس القوى التي يتمتع بها الموضوع المصوّر حتى تثير خيالنا اللمسي، ومن ثم كان طبيعياً أن يُعنى جوتو باختيار العناصر ذات الدلالة الجوهرية والمادية المباشرة وتسجيلها. ومن الثابت أنه ليس ثمة عنصر يمكن التعبير من خلاله عما له دلالة مباشرة مثل الجسد البشري خاصة الجسد العاري، وأن هناك علاقة وثيقة واضحة بين ما تسجله شبكية العين للمرئيات والإحساس بالقيم اللمسية، إذ تستطيع العين حين ترى نتوءاً أو شكلاً أسطوانياً أو محدّباً أن تنقله إلى الذهن والمخيّلة على الفور كما لو كانت الأصابع قد تحسسته ولمسته، بل إننا كلما خلعنا على الأشكال المادية الصفات البشرية ازدادت معرفتنا بها وإدراكنا لها. ولكن يبقى شكل واحد فحسب في الكون المرئي لا يحتاج إلى أن نعزو الصفات البشرية إليه، وهو الإنسان نفسه، فحركاته ونشاطه وإيماءاته هي أمور ندركها إدراكاً مباشراً دونما جهد لخلق لغة رمزية تدل عليها. ومن هنا فليس ثمة شكل مرئي يمتلك مثل هذه الإمكانيات الفنية كالجسد البشري، وليس مثله شكل يمكن أن نفطن بسرعة إلى التغييرات التي تطرأ عليه، وليس مثله شكل ندركه بمجرد تمثيله بما هو عليه في الحياة، وليس مثله شكل يمكن أن يتبدّى أثره بسرعة وقوة معمّقاً إحساسنا بأننا جميعاً شركاء في الحياة.وعلى هذا النحو يغدو "الجوهري" في فن التصوير - على العكس منه في فن التلوين [علاقات الألوان بعضها ببعض] - إثارة الإحساس بالقيم اللمسية لدى المشاهد، وهو المجال الذي برع فيه جوتو واستمد منه شهرته التي لا تبارى حتى باتت منجزاته مصدراً ثرّاً للبهجة الجمالية على مرّ الزمن. ويُلفتنا أن المصوّرين الفلورنسيين هم الفنانون الأوربيون الذين انشغلوا بجدية بالمشاكل المتعلقة بفن "تصوير الشخوص" بالذات، وأغفلوا أكثر من مصوّري المدارس الأخرى الاستعانة بالأنماط الجذّابة الجميلة أو المواقف درامية التأثير، غاضّين الطرف عن المتعة التي تبعثها الألوان، فلم يستغلوا عنصر اللون بطريقة منهجية، بل تكاد بعض أعمالهم الشهيرة تنطوي على ألوان فجّة، ذلك أن الأساتذة الفلورنسيين قد حصروا كل جهودهم في تنمية "الشكل(36) Form الشكل في الفن هو تمثيل الأشياء المختلفة سواء أكانت طبيعية أو تجريدية. وهو يمثل رؤية الفنان للموضوع لا مضمونه. (م.م.م.ث). " الذي أصبح وحده مصدر المتعة الجمالية الرئيسي في منجزاتهم. "فالشكل" في فن التصوير هو الذي يضفي على الموضوع المصوّر أكبر قدر من الواقعية، ويمنح المشاهد متعة نفسية متزايدة وإحساساً متجدّداً بطاقة استيعاب غير محدودة، حتى غدت المتعة التي نلمسها بالموضوع الواقعي المصوّر تفوق أحياناً المتعة التي نلمسها بالموضوع الواقعي ذاته، فضلاً عن أن إثارة خيالنا اللمسي توقظ إحساسنا بأهمية الحاسة اللمسية فنشعر أننا بتنا مزوّدين بقدرات حياتية أفضل، كما تمنحنا إحساساً بتزايد قدرتنا على الاستيعاب. وهذا لا يعني أن متعة الصورة تنحصر في القيمة اللمسية وحدها بل هي تتعدّاها أيضاً إلى ما تنطوي عليه من جمال التكوين الفنّي وسحر الألوان، هذا إلى ما فيها من دلالات إيمائية وحركية وغير ذلك من مفاتن التصوير. ولكن إذا لم يتوفر في الصورة ما يلفت خيالنا اللمسي فإنها تصبح أبعد ما تكون عن الجاذبية النابعة من الواقعية التي تزيدها الأيام عمقاً وَرسوخاً، لأنها إذا لم تكن كذلك فسرعان ما ينفد معينها وتنضب قدرتها على شدّ مشاعرنا، وتفقد ما ينطوي عليه جمالها من دلالة جوهرية كان ينبغي ألا يتغير شعورنا إزاءها وإن عاودنا النظر إليها مرة بعد مرة.ويستطيع القارئ أن يتبين كيف استطاع جوتو أن يثير فينا الخيال اللمسي إذا ضاهى بين صورتين متجاورتين بمتحف أوفيتزي بفلورنسا تتناولان موضوعاً واحداً هو "العذراء فوق عرشها تحمل يسوع الطفل" إحداهما للفنان تشيمابويه (لوحة 5) والأخرى لجوتو (لوحة 6) - وكان تشيمابويه (1240 - 1302) حلقة الوصل بين التقاليد الفنية البيزنطية وثورة جوتو الفنية، وقيل إن جوتو قد تتلمذ على يديه - فسيجد أن الفارق بينهما شاسع، لأنه ليس فارقاً بين أنماط أو قوالب نموذجية فقط بل هو فارق في طريقة التنفيذ وتحقيق الغرض. فمع لوحة تشيمابويه نجهد مع الصبر والأناة لفك مغاليق الخطوط والألوان كي نتبيّن مغزاها حتى ننتهي إلى أن الصورة تمثل امرأة جالسة تلتفّ حولها كوكبة من الملائكة وأدناها أربعة من القديسين، على حين أننا ما نكاد نتطلع إلى لوحة جوتو حتى ندرك مضمونها على التو، فالعرش يحتلّ فراغاً ملحوظاً والعذراء من فوق العرش في جِلسة مرتضاة والملائكة مُصطفّة حولها، ولا غرو فقد مارست مخيلتنا اللمسية دورها على الفور، فشاركت أكفنا وأصابعنا عيوننا بأسرع مما كانت تفعل لو أنها كانت تتطلع إلى المشهد نفسه على الطبيعة. ولا يسع المرء إلا الاعتراف بأن هذه الصورة تحمل بعض الأخطاء، كقصور الأنماط الممثّلة عن التعبير الأمين عن "المثل الأعلى للجمال" وضخامة الشخوص التي تبدو مفاصل أطرافها مطموسة مما أفقدها طواعيتها للحركة، غير أن سماتها الأخرى الجديرة بالتأمّل ترغمنا على التجاوز عن هذه الهنات.وينزع جوتو عادة نحو الأنماط ذات الأشكال والوجوه البسيطة الضخمة التي تُلفت الخيال اللمسي، كما يلجأ إلى استخدام أبسط الأضواء والظلال، ومن ثم تشمل خطة ألوانه أخفّ الألوان وطأة في الوقت نفسه الذي تنطوي فيه على أشدّ التباينات، ويهدف في تكويناته الفنية إلى وضوح تجمّعات الشخوص حتى يظهر كل منهما بقيمته اللمسية المناسبة. والعجيب الذي يشدّ الانتباه في لوحة جوتو السالفة هو ظلالها وأضواؤها، فعلى حين تبيّن الظلال الأسطح المقعّرة تكشف الأضواء عن الأسطح المحدّبة، وبتلاعبه بالأضواء والظلال وبالخطوط الموظّفة توظيفاً عملياً فعّالاً نفطن على الفور إلى الدلالة الجوهرية في كل شكل من أشكاله عارياً كان أم كاسياً، فكل ما تضمّه اللوحة يؤدّي وظيفته في النسق الفني العام نظاماً وتركيباً وتكويناً، وكل خطّ له وظيفته، مؤدّياً دوره في تحقيق هدف معيّن تحدد وجوده واتجاهه الحاجة إلى إضفاء القيمة اللمسية على الصورة، فإذا تتبّع المرء أي خط في هذه اللوحة أو في غيرها من لوحاته وجده يحوط الشكل ويجسّمه بما يساعد على تبيّن الرأس والجذع والردفين والساقين والقدمين في يسر، كما تحدد الحركة المصورة انسياب الخط ووجهته وغلظه ولطفه، فليس ثمة صورة لجوتو لا تنطوي على هذه الميزات.وإذا كانت أهم ميزة فنية تنفرد بها إنجازات جوتو وتعدّ بحق إسهامه الشخصي في فن التصوير هي إضفاء القيم اللمسية عليه فليس معنى ذلك أنه يفتقر إلى غيرها من المزايا، فقد كان رغم قصور الوسائل الفنية في عصره يلجأ حين يتناول موضوعاً دينياً إلى إسباغ وقار المواكب الدينية والجلال الكهنوتي والمغزى الروحاني عليه. وإذا انتقلنا إلى تصاويره الترميدية(37)Grisaille التصوير بدرجات اللون الرمادي على الجدران أو السقوف بحيث يَهِمُ المُشاهد بأنها نقوش ناتئة. (م.م.م.ث). الوعظية الرامزة التي صوّرها على جدران مصلى "آرينا" ببادوا كالظلم والبخل والإيمان على سبيل المثال، ندرك على الفور أنه لا بدّ قد ساءل نفسه: ما هي الدلالات الجوهرية والمادية في مظهر وسلوك وإيماءات الشخص الذي تسيطر عليه مثل هذه الرذائل أو يتحلى بمثل تلك الفضائل؟ ثم يعكف بعد ذلك على رسم هذه الشخصية في صورة تعيد إلى الذاكرة هذه الرذيلة أو تلك الفضيلة، فإذا هو يصوّر "الظلم" رجلاً قويّ البنية في عنفوان عمره يرتدي ثياب القضاة بينما تقبض يده اليسرى على مقبض سيفه واليمنى ذات الأظافر المخلبية على رمح ذي خطّاف مزدوج، وترقب عينه القاسية ما يجري بين يديه في صرامة متأهّباً للانقضاض بكل قوّته على فريسته، ويجلس في اعتداد فوق صخرة تُطلّ على أشجار شاهقة، وقد احتشد أتباعه تحت الصخرة يجرّدون أحد المارة من ثيابه وجواده وممّا يحمله معه ثم يفتكون به (لوحة 7). وإذا هو يصوّر "البخل" عجوزاً شمطاء أذنها كالبوق، وقد أطل من فمها ثعبان يتحوّى ليلدغ جبينها، بينما تقبض يسراها على كيس نقودها وهي تسير متسللة تتلهّف يمناها لاستلاب أي شيء (لوحة 8). كما صوّر جوتو "الإيمان" في شكل سيدة تمسك بالصليب في يد وبلفيفة في اليد الأخرى (لوحة 9)، ومثل هذه الصور الرمزية لا حاجة بها إلى تعريف يوضح مقاصدها ما بقيت هذه الرذائل والفضائل منتشرة بين الناس. وقد يحلو للمشاهد أن يرد تلك الأشكال المصورة الدقيقة إلى الشخوص الرامزة المنحوتة على مدخل الكاتدرائيات القوطية المنتشرة في فرنسا وشمال أوربا، ولكنه ما يلبث أن يفطن إلى الفارق الشاسع بين أعمال المثّالين القوط وبين هذه الأشكال المصورة الدقيقة التي تفيض بالحكمة والموعظة، فتسترعي انتباهه محاولات التضاؤل النسبي وتجسيم الوجوه واستخدام الظلال في طيّات الثياب المنسابة، فلقد انصرم ما ينوف عن ألف عام منذ آخر مرة ظهرت فيه هذه المحاولات، وإذا جوتو يُعيد اكتشاف فن الإيحاء بالعمق فوق سطحٍ مستوٍ.وثمة نموذج آخر يكشف عن حسّ جوتو الرهيف بكل ما هو جوهري ذو دلالة هو تناوله الحاذق للإيماءات والحركة التي سرعان ما توحي بالمعنى الذي يبغيه، على نحو ما نرى في لوحة الفريسك "دخول المسيح إلى أورشليم" بمصلى آرينا في بادو (لوحة 10). فمن خلال الخطوط ذات الدلالة، والضوء والظل ذي الدلالة، والنظرات المتجهة إلى أعلى أو أسفل ذات الدلالة، والإيماءات ذات الدلالة، ومن خلال أبسط الوسائل التقنية المتاحة وقتذاك، - وعلى الرغم من الدراية المنقوصة المبتسرة بأصول التشريح آنذاك - نقل إلينا جوتو الإحساس التام بالحركة.وكان الفنان جوتو من أوائل الروّاد الذين استخدموا العناصر الشرقية التجميلية في التصاوير التاريخية الدينية الأوروبية بغية محاكاة الواقع، فإذا هو يصور الإنسان الشرقي بملامحه وأزيائه من عمائم وأردية فضفاضة وإسراف في التجمّل بالحليّ والجواهر وكأنه كان يعايش أهل تلك الأمصار الجغرافية التي عاصرت أحداث الكتاب المقدس، كما صور عناصر الطبيعة والعمائر الشرقية والنباتات الإقليمية كالنخيل والطير كالطواويس والحيوان كالنوق والحمير والتنانين والقردة على غرار ما وقعت عليه عيناه في كتب الرحّالة والقناصل والحجّاج والمبشّرين التي كانت في أغلب الأحيان تنتظم رسوماً توضيحية للأماكن المقدّسة وأنماط العمارة والأزياء وقسمات الوجوه وتضاريس المنطقة. ومن هنا جاءت الصورة الشرقية في لوحاته وإنجازات من ساروا على نهجه حافلة بمثل هذه الزخارف الجميلة.وتكاد الكثرة من مؤرّخي الفن تُجمع على أن اللوحتين الأوليين من مجموعة لوحات كنيسة القديس فرنسيس بأسيزي هما من تصوير جوتو نفسه، وإذ كان المعروف عنه أنه يستعين في إعداد رسومه بنفرٍ من المساعدين، فمن العسير تعرّف ما له وحده من بينها، ويرى الزائر وهو يعبر البوابة الرئيسية إلى يمينه لوحة "معجزة النبع" (لوحة 11) تقابلها يساراً لوحة "موعظة الطير" (لوحة 12)، ولعل جوتو قد اختار موقع هاتين اللوحتين بالقرب من مدخل الكنيسة لكي يتأثّر الحجّاج الوافدون أول ما يتأثّرون بمغزى أسطورة القديس فرنسيس التي تنطوي عليها هاتان اللوحتان. وتوحي سيرة هذا القديس فيما تمثّله تلك اللوحات بما كان له من عون للفقراء ومساعدة لأبناء السبيل، ثم إلى ما كان له من حدب على مخلوقات الله لا سيما الطيور التي كان يناديها باسم أخواته. والمعروف أن جوتو قد استلهم تصاويره من سيرة القديس فرنسيس التي دوّنها القديس بونا فنتورا، وكانت لوحة معجزة النبع تروي حادثاً عرض للقديس أثناء إحدى جولاته التي تحكيها أسطورة "الرفقاء الثلاثة". وفي هذه القصة نرى كيف اضطر القديس ورفيقاه حتى يصعد إلى الدير القائم فوق جبل لافيرنا إلى الاستعانة بفلاح معدم وحماره، وكان الطقس شديد الحرارة والطريق وعراً عبر جبل أجرد ممّا أحسّ معه الفلاح بعطش شديد حتى كاد يهلك ظمأ، فإذا هو يصيح مُوَلولاً بعد أن ثبت له أنه لا محالة مشرف على الهلاك إن لم يُسعفه القدر بجرعة ماء. وعندها خرّ القدّيس فرنسيس راكعاً مبتهلاً إلى الله، ثم إذا هو يمسك بيد الفلاح ينهضه من مجثمه مشيراً إلى صخرة في الجبل قائلاً له: "هناك ستجد ما يروي ظمأك، فثمّة عين ماء فجرها المسيح إشفاقاً عليك"، ولم يكن هذا العطش الذي أشارت إليه الأسطورة بطبيعة الحال عطشاً بدنياً فحسب بل هو عطش روحاني أيضاً.وبقدر ما تتجلّى روعة التكوين الفنّي في هذه اللوحة فهو شديد البساطة، حيث يبدو القديس فرنسيس مُكتسياً برداء طائفته مُحتلّاً مركز البؤرة من الصورة على مقربة من قمّتين صخريّتين، تبدو تلك الواقعة وراءه وقد غمرها الظل، وتبدو تلك التي يرفع ذراعيه أمامها ابتهالاً غارقة في فيض من النور المتوهّج، ويهبط الضوء مائلاً فوق تضاريس الجبل المتدرجة حتى تبلغ حدّته الذروة حول رأس القديس فيتّحد مع الهالة المحيطة برأسه. وفي ظل القديس يتراءى رفيقاه وحماره على امتداد اتجاه النور الهابط، ويتوازن شكل الفلاح المعتم الذي يروي عطشه من النبع في أسفل الجهة اليمنى من الصورة مع الجبل المغمور بالظل في أقصى اليسار العلوي، وهو ما يرمز إلى أنه ما يزال متعطّشاً إلى ارتواه روحه. ولما كانت صورة القديس فرنسيس هو الآخر قد ظهرت على نفس الخط المائل، فالراجح أن الفنان قد قصد بذلك الإيحاء بإشراقة الاستنارة. وتضم اللوحة أحد جبال جوتو التي نراها في الكثير من منجزاته، والتي لا سبيل إلى محاكاتها فهو لا يصوّر الجبال كما هي في الواقع وإنما هو يتصرّف بأحجامها بحيث تتواءم مع الطبيعة البشرية. فجباله دائماً على وفاق وتناغم مع الشخوص التي تجتازها، وهي في هذه اللوحة تغري المشاهد بأن يتأمّل مغزى الحادث الخارق المُعجز، على حين يتجاذب راهبان أطراف الحديث وقد شملتهما الحيرة. على أنه مما يسترعي الانتباه أن النسب التي راعاها جوتو غير صحيحة من الوجهة الواقعية وإن كانت سليمة من الوجهة السيكولوجية، فتبدو شخوصه ضخمة بالقياس إلى الجبال، كما تظهر الأشجار متناثرة للإيحاء بالانفساح لا لمحاكاة مشهد الأشجار الطبيعية التي تضمّها مثل هذه البيئة. هكذا وفّق جوتو في استغلال تضاريس الجبال الوعرة وفي استخدام الضوء والظل لإبراز الحجم والكتلة المناسبين لإضفاء نبضات الحياة على شخوصه وجعلها واقعاً ملموساً.وإذا كانت لوحة "موعظة الطير" المواجهة أدنى مرتبة من زميلتها من الناحية الدرامية إلا أنها تفوقها من الوجهة الشاعرية الغنائية، حيث نرى الطيور تحلّق محوّمة حول القديس فرنسيس إلى أن تحطّ على الأرض وتومئ برؤوسها نحوه بينما يخاطبها قائلاً: "أيها الطير أخي في الخلق، سبّح معي بحمد الخالق الذي كساك ريشاً ووهبك جناحين تطير بهما، وأفسح لك في فضائه تسبح فيه كما تشاء، وأظلّك بحمايته وما كان أضعفك عن أن تحمي نفسك".ومرّةً أخرى يكشف الفنان عن مهارة خلّاقة في التعبير عن الدلالة الجوهرية للموضوع وعن قصد بليغ في الوسائل التي استخدمها لنقل هذا المغزى العميق. فعلى حين يبدو القديس فرنسيس مُنحنياً وهو يتطلّع إلى الطير وقد رفع يده يباركها ترتفع يد رفيقه دلالة نفاد الصبر والتبرم بما يفعله صاحبه، وكأنه على وشك أن يهشّ بها أخواته الصغار من الصورة. ولقد كان لعوادي الزمن وأخطاء المرمّمين المتعدّدين ما انتزع الكثير من روعة لوحة جوتو، ومع ذلك لا تزال الدلالة الجوهرية والرسائل المعبّرة للصورة تتسلّل إلينا بوضوح دون حائل.ومن بين لوحات هذه الكنيسة تصويرة تنطوي على دراما إنسانية عنيفة هي لوحة القديس فرنسيس يخرج عن طوع أبيه زاهداً في ميراثه (لوحة 13). فذات مرة وفرنسيس في شبابه كان يمر بإحدى الكنائس المهملة فدخل وصلّى وإذا به يسمع صوتاً من السماء يأمره بإصلاح الكنيسة فنهض لتوّه ليبيع سراً بعض السلع في مخزن أبيه، الأمر الذي أغضب والده فدفع به إلى المحاكمة. وقد وصف بونا فنتورا هذا المشهد قائلاً: "صحب الوالد المغيظ المملوء حنقاً ابنه الشاب القديس فرنسيس إلى أسقف المدينة ليضطره إلى التخلي عما هو عليه من خلعٍ لأبيه، وما كان أسرع الفتى إلى أن ينزع عنه ثيابه ويطرحها بين يدي أبيه متجرّداً عن دنياه ليخلص إلى آخرته، وأخذ وهو عارٍ يقول: "قبل هذا كنت أناديك يا أبي الذي على الأرض، ومن الآن فصاعداً سوف أتجه إلى ربّي الذي في السموات الذي أعلّق عليه الأمل والرجاء". وما إن سمع الأسقف هذا القول يجري على لسان الفتى حتى اهتزّ له قلبه ونهض ليطوّقه بذراعيه باكياً، ثم إذا هو يخلع عن نفسه عباءته ليطرحها على الفتى، ويأمر أتباعه من حوله بأن يحذوا حذوه ويزوّدوا الفتى بما يستره.ولو كان مثل هذا المشهد بين يدي فنّان أقل مهارة من جوتو لجاء ميلودرامياً واهياً أو مثيراً للتندّر، غير أن إحساس جوتو بالصراع الدرامي وإدراكه للدلالة الجوهرية لم يكن يقل عن براعته في التصوير، فالأب الغاضب المتلهّف للالتجاء إلى العنف في سبيل تثبيط عزيمة ابنه كان في حاجة إلى من يكبح جماحه من بين الواقفين وراءه، ومع ذلك ظلّ وجهه ينطق بالقلق الذي يمزّق قلب أب شديد التعلّق بولده الضال عاجزاً عن إدراك ما يدور بخلده. وبهذا كشف جوتو عما يعتمل من صراع داخلي في نفس الأب الذي وجد نفسه مُرغماً على التخلّي عن الآمال التي عقدها على ولده كي يحقّق في الحياة الدنيا ما يصبو إليه من نجاح مادي، فإذا شخصيته بوصفه البطل الندّ في الدراما تتوازن مع شخصية الأسقف الذي يغدو من الناحية الرمزية الأب الجديد للقدّيس الشاب. ويعزّز هذه الشخوص المتوازية في يسار اللوحة، البيت ذو الدرج وأهل المدينة المحتشدون على حين يدعمها من الناحية الأخرى الراهبان وعمارة الكنيسة الرامزة إلى بيت الله، وتتجلّى واضحة أمامهم صورة القدّيس إلى جوار الكنيسة وهو يرفع يده ضارعاً إلى الله بينما تجيب عليه يد الله الهابطة نحوه من قمة الصورة.وعلى الرغم من أن جملة من النقاد قد استنكرت هذه اللوحة معتبرة انقسامها إلى شطرين مما ينزع عن الصورة وحدتها، يعدّ البعض الآخر هذا الانقسام براعة درامية لا ضريب لها، إذ ليس ثمّة وسيلة أخرى للتعبير عن انقسام العالم إلى شطرين: عالم الجسد الساعي وراء المادة وعبادة المال، وعالم الروح الساعي نحو الغايات الروحية وعبادة الله. ونرى في مقابل الخطوط الرأسية للمجموعتين المنقسمتين أدنى الصورة، معادلها الأفقي في مثلث قاعدته تتشكل من المجموعتين في أسفل الصورة بينما يسمق أحد الضلعين الضلعين مرتفعاً من خلال حركة يد القديس فرنسيس حتى يبلغ القمة عند يد الله الهاطلة من السماء. وحتى إذا سلّمنا بأن الوسائل التي استخدمها الفنان بالغة البساطة، بل حتى لو كانت ساذجة بعض الشيء فمن المشكوك فيه أنه كان في الإمكان التعبير عن الدلالة الدرامية الكامنة بمثل هذا الوضوح أو بمثل هذه الوسائل المرئية المباشرة.وثمة نموذج فذّ لأسلوب جوتو في أواخر حياته هو لوحته المعروفة باسم "وفاة القديس فرنسيس" (لوحة 14، 15) والتي أنجزها مع سبع لوحات أخرى بكنيسة سانتا كروتشي [الصليب المقدس] بفلورنسا. وعلى الرغم من كثرة الأيدي التي تناولتها بالإصلاح والترميم فما تزال مفاهيم جوتو تحفظ للصورة مكانة مرموقة بين أسمى التصاوير خلال عصر النهضة. وقد استلهم جوتو موضوع هذه اللوحة مما خطّه بونا فنتورا حول وفاة القديس قائلاً: "وعندما بلغ النهاية في اتصاله بالملأ الأعلى أسلم الروح التي تحرّرت من ربقتها الجسدية صاعدة إلى الأمجاد السماوية مخلّفة وراءها ذلك الجسد الفاني مُستغرقاً في نومة لا يقظة بعدها. وكان إلى جواره وهو يلفظ أنفاسه رفيقٌ تجلّت له روح القديس وهي مصعدة في السماء على صورة نجم متألّق من تحته سحابة بيضاء تتوهّج بنور هذا النجم وهي تتأرجح في صعودها إلى الملأ الأعلى". ويشير الزمان في هذه الصورة إلى لحظة الموت، كما يشير المكان طبقاً لرواية فنتورا إلى فناء دير الفرنسيسكان بأسيزي. وليس ثمّة حركة تختلج في الجسد المُسجّى الذي يُضفي بسكونه الوحدة على الصورة، وتتلاقى كافة الخطوط المنحنية التي تكوّنها الأردية وإيماءات أفراد المجموعات الخمس المحيطة بالجثمان عند رأس القديس التي تمثل مركز البؤرة في الدراما. ويتجاوب الإطار المعماري مع تجمّعات الشخوص وكأنّه صداها، فتبدو الصورة وكأنّها جزء لا ينفصل عن الجدار الذي تزيّنه، بينما تشكّل البوّابات ذات السقوف المسنّمة على كلا الجانبين لوناً من ألوان التقابل المعماري مع مجموعتي الشخوص على الجانبين. وعلى حين تتوازى الخطوط الأفقية للجدار الخلفي مع الخطوط المحددة لجثمان القديس، تتناغم الخطوط الرأسية المحددة للمباني مع الشخوص الواقفين والراكعين. ويؤدّي الاتجاه المائل للصليب الذي ترتفع به أيدي مجموعة الشخوص على الجانب الأيمن دوراً في تلطيف أثر الخطوط الأفقية والعمودية الطاغية على اللوحة، كما تنهض الألوان بدور الإيحاء بالعمق الذي يتعذّر تبيّنه في هذه الصورة الفوتوغرافية المطبوعة، فإذا الفنان يصوّر معطف الأمير الراكع شديد الحُمرة للإيحاء بأمامية الصورة، ويدثّر بقيّة الشخوص بعباءات بنّية ورمادية محايدة للإيحاء بمنتصف عمق اللوحة، على حين لوّن السماء التي تعلو جدار صحن الدير بزرقة داكنة متدرّجة متطامنة للإيحاء بخلفية الصورة، وذلك دون أن يفوته الربط بين العنصر الوجداني وبين إيقاعات الخطوط، وبهذه الوسائل السديدة وفّق جوتو إلى تحقيق الوقار المواكب لموت أحد الخالدين. ويبلغ التوتّر الدرامي مداه عند الهالة النورانية المحيطة برأس جثمان القديس الساكن، ومنها إلى الرؤيا الجليلة التي تموج بالحركة أعلاها. وطبقاً لوصف بونافنتورا يلمح المشاهد هذه الرؤيا من خلال نظرات الراهب الواقف وراء رأس القديس مباشرة، إذ تنقل يده المرفوعة أبصارنا إلى أعلى صوب النجم السماوي بينما يطرق الرفقاء الآخرون بهاماتهم حزناً وهم يودّعون رفيقهم ورائدهم الوداع الأخير. وهكذا يتشكّل أمامنا في فراغ لوحة جوتو مثلث تعبيري يحدّده ضلع الصليب من جانب وضلع من جانب آخر يوحي بامتداد نظرة الراهب صوب الرؤيا السماوية حيث يلتقيان.وفي مدينة بادوا كان ثمّة مراب يُدعى سكورفيني بلغ من سوء سمعته أن وضعه الشاعر دانتي في الطابق السابع من الجحيم. وما من شكّ في أنّ هذه اللعنة التي حلّت بسكورفيني الشيخ قد أقلقت بال ابنه إنريكو الذي سارع بتشييد مصلى باسم أبيه علّه يكفّر بها عن ذنوبه وعهد إلى جوتو بزخرفة جدرانها، وكان أن خلّد المصوّر هذا الحادث ضمن لوحته الكبرى يوم الحساب (لوحة 16، 17) قاصداً أن يدرك زائر المصلى أول ما يدرك أن هذا المبنى قد شيّد استدراراً لرحمة الله وغفرانه.ويُطلق على مصلّى سكورفيني عادة اسم مصلّى الحلبة "آرينا" نظراً لكونها مشيّدة فوق موقع حلبة رومانية قديمة، وقد جرى تكريسها في عام 1305، وما لبث جوتو أن عكف على زخرفة جدرانها. وليس للبناء ذاته قيمة معمارية حتى ولو كان جوتو هو مصمّمه، فقد جاء على شكل سقيفة مسنّمة من الآجر لا يجاوز طولها ثلاثة وعشرين متراً، تعلوها قبوة أسطوانية تضيئها من أحد الجانبين ست نوافذ طويلة ضيقة وتنتهي بحنيّة عادية، غير أن جدرانها الجانبية احتشدت بلوحات جوتو الثماني والثلاثين التي تتناول حياة العذراء والمسيح وحنه وغيرهم، وكلها موضوعات سبق أن طرقها المصورون مئات المرات ولكن جوتو أعاد صياغتها بتفسيره الخاص الذي قفز بفن التصوير إلى المكانة السامقة التي بات يحتلّها بين الفنون حتى عاش الفن منذ هذا العهد وسيلة الفنان في التعبير عما يجيش في صدور الناس من تطلعات بأن الحياة الدنيا رهن بيد القدر الذي يقضي فيها وحده. فصوّر إنريكو وهو يقدّم النموذج المصغّر للمصلى إلى ملائكة ثلاثة تحيط برأس كل منهم هالة نورانية، وقد ركع أمامهم مادّاً يده اليمنى مرتكزاً إليها النموذج على حين رزح ثقل النموذج كله على كتف أحد أتباعه من القسس، باسطاً يده اليسرى في رهبة وخشوع صوب أحد الرسل الثلاثة الذي مد له هو الآخر يده علامة الرضا والقبول حتى تكاد اليدان تتلامسان. ويبدو الرسل منتصبين في وقار وقد انحنت رؤوسهم قليلاً صوب إنريكو وهو ضارع إلى الله، وتجلّى في محياهم مزيج من الجلال والرحمة المناسبين لدورهم كرسل يصلون بين ملكوت السموات وملكوت الأرض، على حين ركع إنريكو في خشوع لا ينتقص من كبريائه. وفي العصر الذي كان المصورون يكتفون فيه بتسجيل تعبيرات قليلة من ملامح الوجه، صوّر جوتو رأس إنريكو وكأنه بورتريه يحاكي الأصل، فإذا هو يكشف عما يختلج في صدر إنريكو من العواطف والانفعالات في لحظة الرهبة خشية ألا يتقبّل الرب نذره في الوقت الذي يبدو عليه أن مخاوفه قد تبددت بفرحته عندما أدرك قبول الربّ للكفّارة التي قدّمها. ومع ذلك نلمس أيضاً أنه حتى أثناء فرحته قد تمكّن من كبح انفعاله والسيطرة عليه. نجح جوتو في تصوير هذا الموقف بكل ما يموج به من عواطف على الرغم من المصاعب التقنية التي تكتنف فنّاً كان ما يزال يشق طريقاً جديداً في سبيل تمثيل أحداث تذكارية خالدة، ومن زوايا رؤية لم يقدّمها فنان من قبل بأسلوب واقعي.على أن هذه اللوحة تنطوي أيضاً على أخطاء تقنيّة وإن لم تكن ذات أهمية كبيرة؛ مثل وضعة(38) Pose. الوضعة هي ما يكون عليه الجسم أثناء التصوير قائماً أو قاعداً أو متّكئاً أو ملتفتاً أو مشيراً، إلى غير ذلك. (م.م.م.ث). يد إنريكو اليسرى البعيدة ومعصمه اللذين يبدوان وكأنّهما ينطلقان من ذراعه اليمنى القريبة، وكذا اختفاء ساقه اليمنى التي تبدو وكأنها بُتِرَت عند الموضع الذي ترتكز فيه الركبة على الأرض، فضلاً عن تصوير المنظور غير الدقيق لنموذج المصلى، وكلّها عقبات تقنيّة لم تجد لها حلّاً إلّا بعد مرور مائة عام، غير أن جوتو لم يترك محاولة تجديد إلا أقدم عليها، فهجر المصطلحات الفنيّة المُتعارف عليها في كتالوجات الرسّامة والتصوير وصاغ أشكال شخوصه في تكوينات درامية فجّرت ثورة عارمة لا من حيث التقنية فحسب بل في روح فن التصوير بأكمله.ومن بين أجزاء لوحة يوم الحساب في أسفل الجانب الأيسر بمصلّى آرينا ما يمثّل عذاب الجحيم، ويلفت نظرنا فيه تكوين يضم أربعة شخوص عراة من الخاطئين (لوحة 18). وتصوير العراة فنّ طرأ بِآَخِرَةٍ على التصوير في العصور الوسطى، ونراهم وقد عُلّقوا من الأجزاء أو الأطراف التي أثموا بها رجالاً ونساءً، فأحدهم معلّق من لسانه، وثانيهما امرأة معلّقة من شَعرها، وثالثهم رجل معلّق من مذاكيره، وفي موقع آخر من الجحيم يبدو أحد الزبانية وهو يخصي زانياً بكلّابتين. ومن الطريف أن نعقد مقارنة بين هذا التكوين الذي أنجز في مطالع القرن الرابع عشر (1308) وبين منمنمات مخطوطة "معراج نامه" الفارسية المحفوظة بدار الكتب القومية بباريس والمُنجزة في عام 1436، ويتجلّى فيها أحد الزبانية وقد انبثق اللهب من فمه وهو يحرس رجالاً خاطئين يعذّبون في جهنّم وهم معلّقون بالخطاطيف نظير ما ارتكبوا من رياء وإعراض عن تأدية فريضة الصلاة، تُرى هل هو مجرّد توارد خواطر؟ (لوحة 19).وقبل أن نُغادر مصلّى الحلبة لا يفوتنا التعليق على لوحة "إيداع جثمان المسيح القبر" (لوحة 20، 21) فهي نمط معجز من التصوير حتى ليمكن تشبيه شخوصها بالمنحوتات. وكان جوتو قد أفاد الكثير من دراسته وتحليله لفنّ النحت الكلاسيكي، فإذا شخوصه تتجلّى نابضة بالحيوية متميّزة بالتجسيم المتقن يجمّلها سرب الملائكة الذي يحلّق آسياً كالطيور التي يعذّبها الشجن، ولا ينبثق من الأرض القاحلة المحيطة غير شجرة وحيدة جرداء، فليس لشيء أن ينمو ويزدهر أمام مأساة موت المسيح. وتعدّ هذه الشجرة من الناحية الرمزية إرهاصة بما تفتّق عنه ذهن دانتي بعدُ حين صوّر شجرة المعرفة بعد أن تجرّدت من أوراقها في أعقاب خطيئة آدم وحواء وإذا هي تكتسي بالاخضرار عند موت المسيح بعد أن قدّم حياته كفّارة عن خطيئة الإنسان الأصلية. وينبني التكوين الفني في اللوحة على حركة مندفقة يحدّدها جسد المسيح تسانده الشخوص المنتصبة كالأعمدة على الجانبين. وإن كان ثمّة إسراف في هذا التكوين فهو احتشاده بالهالات التي كان ينبغي ألّا تكلّل غير القديسين الذين يبدون في الصورة بشراً يحسّون الفجيعة والحسرة شأنهم شأن الإنسان العادي. وعلى الرغم من أن لوحة "إيداع جثمان المسيح القبر" تصوير مسيحي رائع لنص مسيحي مقدّس إلّا أنّها حتى إذا انفصلت عن هذا النص فستظل تصويراً شديد التأثير، فشخوصها منفردة أو مجتمعة تروي واقعة محزنة ما تزال شديدة الإيلام للبشر جميعاً على اختلاف عقائدهم. فالعذراء وهي تنوح على ولدها أم ثكلى تتلظّى بعذاب فقدان وحيدها، وهي فوق ذلك تعبّر عن المشاعر التي يمكن أن يحسّها كلّ منّا في مثل موقفها. وكأيّ تكوين فنّي مأساوي عظيم سواء كان أدبيّاً أو مصوّراً تشدّنا هذه اللوحة وتطهّرنا من خلال ما نستشعره من لوعة وشجن، بل ورهبة. تلك هي طبيعة ثورة جوتو التي قادتنا إلى الدلالات الجوهرية في الوجدان الإنساني بلا تكلّف ولا حذلقة، إذ كانت ثورته التقنية في اتجاه التمثيل الواقعي موصولة بهذه الفكرة.

الاثنين، 20 أبريل 2009

حياكم الله ..

ارحب بكل زواري الكرام ..